38 C
Khartoum
السبت, يونيو 7, 2025

التمييز والتناسب في إستهداف المنشآت الحيوية والبنى التحتية خلال النزاع المسلح السوداني د. رجاء عبدالله الزبير الملك 1/يونيو/2025

إقرأ ايضا

في النزاعات المسلحة المعاصرة ،يظل المدنيون الطرف الاكثر تضرراً،حيث أضحت الاعيان المدنية في كثير من الاحيان أهدفاً مباشرة لأطراف النزاع،في سبيل تحقيق مكاسب عسكرية أو سياسية ،ويُعد النزاع المسلح الراهن في السودان مثالاً بارزاً لهذه الإنتهاكات ،فقد شهدت البلاد إستهدافاً متكرراً من جانب قوات الدعم السريع المتمردة، لاعيان مدنية (civilian objects) حيوية أبرزها قصف مطار بورتسودان المدني ومستودعات النفط الحيوية على ساحل البحر الاحمر ،ومحطات التوليد والتحويل الكهربائي التي تعد من مكونات البنية التحتية المدنية.
يمثل هذا الاستهداف خرقاً واضحاً لقواعد القانون الدولي الإنساني،نظراً لما يترتب على تدميرها أثاراً كارثية على حياة السكان واقتصاد الدولة ، مما يجعل الهجوم عليها عملاً غير مشروع من منظور القانون الدولي الإنساني، والقانون الجنائي الوطني ،وقد أستخدمت قوات الدعم السريع المتمردة أسلحة متفجرة ذات تاثير واسع النطاق ، كالصواريخ والمدفعية، في مناطق مأهولة بالسكان، مما أسفر عن وقوع خسائر فادحة في الارواح والممتلكات المدنية،ومع التراجع الميداني لهذه القوات، لجأت إلى استراتيجية “الإنهاك غير المباشر” من خلال إستهداف المنشآت الحيوية بهدف إضعاف القدرات اللوجستية والاقتصادية للقوات المسلحة السودانية.

إن هذه الافعال تُعد مخالفة صريحة لقواعد القانون الدولي الإنساني سواء في نصوصه التعاهدية منها أو قواعده العرفية ،والتي تفرض على أطراف النزاع التمييز بين الاعيان العسكرية والمدنية في جميع الاوقات ، وتحظر إستهداف الاعيان المدنية ،أو شن هجمات عشوائية أو غير متناسبة ،وتؤكد هذه القواعد أن الضرورة العسكرية لا تشكل سوى إستثناءً محدوداً ،لا يبرر تنفيذ عمليات عسكرية تؤدي إلى معاناة لا مبرر لها (unnecessary suffering) بالمدنيين أو ممتلكاتهم.
ورغم أن المنشآت النفطية قد تُستخدم لاغراض مزدوجة عسكرية ومدنية إلا أن القانون الدولي الإنساني يشترط ثلاث عناصر مجتمعة لجواز إستهدافها ،وهي أن تُستخدم المنشأة من واقع طبيعتها وموقعها والغاية منها لدعم العمل العسكري بشكل مباشر ،وكذلك ضرورة تحقيق ميزة عسكرية ملموسة ومباشرة فلا يجوز استهداف المنشاة الا اذا كان تدميرها سيفضي الى تحقيق ميزة عسكرية حقيقية في ضوء الظروف السائدة،علاوة على ذلك ضرورة مراعاة قاعدة التناسب حيث يُحظر شن هجوم يتوقع أن يسبب خسائر في ارواح المدنيين أو إصابات أو أضراراً بالاعيان المدنية، ويجب أن لا يكون مفرطاً في تجاوز ما ينتظر أن يسفر عن ذلك الهجوم من ميزة عسكرية ملموسة ومباشرة ،مع الحرص الدائم عند إدارة العمليات العسكرية الى تفادي اصابة السكان المدنيين بصورة عارضة ،وتقليلها الى الحد الادنى.
وكذلك يبتغي مبدأ التناسب (proportionality) الوارد في القانون الدولي الإنساني الى تحقيق التوازن بين مبدأي الإنسانية والضرورة العسكرية ،غير أن تطبيقه في ميدان القتال وإدارة العمليات الحربية ، يظل معقداً ويستوجب تقييماً فورياً يستند الى معلومات دقيقة لتحقيق التوازن بين الضرر الناجم عن الهجوم من حيث المعاناة أو الاضرار العرضية،في مقابل المزايا العسكرية المتوقعة والخسائر الفعلية في أرواح المدنيين أو الدمار الذي يلحق بالاعيان المدنية.
في هذا السياق يجدر بنا الإستشهاد بما ورد في تقرير منظمة العفو الدولية بشان تدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) في يوغسلافيا ،سنة 1999،عندما إستُهدف مبنى الاذاعة والتلفزيون الصربي بحجة إستخدامه لاغراض دعائية عسكرية ،وقد اشار التقرير الى ضرورة التأكد من المساهمة العسكرية المباشرة للمنشأة، وأن يؤدي تدميرها إلى ميزة عسكرية ملموسة مع مراعاة قواعد التناسب والتمييز بدقة.
عليه، تُطرح إشكالية قانونية جوهرية: هل تُعد مستودعات النفط هدفاً عسكرياً مشروعاً في النزاع السوداني؟ وإن صحت مشروعية الاستهداف ، فهل كانت الأضرار المدنية الناتجة عنه متناسبة مع الميزة العسكرية المتوخاة؟
تؤكد اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، والبروتوكولان الإضافيان الأول والثاني على حماية الأشخاص المدنيين والأعيان المدنية، وتُحظر استهداف هذه الأعيان أو استخدامها لدعم العمليات العسكرية، إلا في حالات الضرورة القصوى (military necessity)، التي تبرر اللجوء الى استخدام القوة تحت رقابة مشددة وضوابط صارمة مبنية على مجموعة واسعة من الظروف الميدانية والخاصة بالسياق المعني،وجدير بالذكر ان الضرورة العسكرية تشكل الإطار الجامع لكل قواعد القانون الدولي الإنساني وتهيمن على سلوك المقاتلين في الميدان،وتشير المواد 50 و51 من إتفاقيات جنيف الاولى والثانية إلى ان تدمير الممتلكات يعد انتهاكا جسيماً للاتفاقيات ما لم تبرره ضرورة حربية قائمة فعلياً.
وعند تطبيق هذه المعايير على النزاع المسلح الدائر في السودان ، يتضح أن استهداف قوات الدعم السريع المتمردة للمنشآت النفطية والبنى التحتية الحيوية في السودان ، يمثل إنتهاكاً جسيماً لقواعد القانون الدولي الإنساني ،لاسيما مبدأي التمييز (distinction) والتناسب ،كما يرقى إلى مستوى الافعال غير المشروعة التي تندرج ضمن جرائم الحرب بموجب النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية ،لان هذه الهجمات لا يمكن تبريرها بأي مصلحة عسكرية ،نظراً لما سببته من دمار بالغ وخسائر جسيمة في الارواح والممتلكات ،ولغياب أي ميزة عسكرية مباشرة تبرر هذا الإستهداف.
وتأسيساً على ذلك ،تدان بشدة الافعال التي أقدمت عليها قوات الدعم السريع ،بوصفها إنتهاكاً صارخاً للاتفاقيات والاعراف الدولية ، وتتحمل بموجبها المسؤولية القانونية الكاملة ، كما يقع على عاتق المجتمع الدولي ومؤسسات العدالة الدولية والإقليمية ، دعم جهود التحقيق والمساءلة،وإتخاذ خطوات فاعلة لضمان عدم الإفلات من العقاب، وضرورة العمل على تعزيز احترام قواعد القانون الدولي الإنساني،لاسيما في السياق السوداني من خلال آليات فعالة للرصد والمحاسبة.

مقالات تهمك أيضا

الأكثر قراءة