. في ليلة من ليالي الخرطوم، حيث تخيم أجواء متوترة يقطعها أصوات متفرقة، شهدت المدينة عملية اقتحام لمنزل أحد الأصوات الدينية والفكرية البارزة في الساحة السودانية، مما أدى إلى احتجاز الشيخ الدكتور محمد علي الجزولي في خطوة أثارت تساؤلات عديدة.
. هذا الإجراء لم يكن حدثاً عابراً في المسار السياسي الراهن، بل اعتبره مراقبون تجسيداً عملياً لوجهات النظر التي كان يتبناها الجزولي، والذي تنبأ بتحول “قوى الحرية والتغيير” إلى ما وصفه بواجهة مدنية تخفي خلفها سياقات عسكرية مطبقة، تسعى -من وجهة نظره- لإحداث تغييرات في النسيج الوطني وفرض رؤى خارجية تحت شعارات ديمقراطية وصفها بالزائفة.
. شيخ محمد علي الجزولي و شيخ حسن الترابي وهما كانوا اكتمال للدائرة الفكرية وتتطوير للمنهج التحليلي الذي تمثلت فيه شخصية الشيخ الجزولي امتداداً روحياً وفكرياً للشيخ حسن الترابي، لكن بمنهجية متعمقه في التحليل الاستراتيجي. إذا كان الترابي قد أسس لمشروع إسلامي في زمن تشكيل الدولة الوطنية، فإن الجزولي أكمله في زمن شهد تحولات كبرى في بنية الدولة الوطنية.
. امتلك الجزولي قدرة فائقة على قراءة الخرائط الجيوسياسية المعقدة وتحليل تحركات القوى الدولية في المنطقة بشكل دقيق وواقعي. بينما اهتم الترابي ببناء الأطر النظرية للمشروع الإسلامي، انشغل الجزولي بتحليل الآليات العملية لمرحلة التحول الكبرى في الدولة. هذا التكامل في الرؤية مع التطور في المنهج هو ما جعل الجزولي يشكل ظاهرة فريدة في المشهد السوداني.
نبوءات الجزولي الاستراتيجية عن التطورات التي سوف تحدث في الفاشر إلى مستقبل السودان وكان تنبؤ شيخ الجزولي بمستقبل مليء بالتحديات لدارفور بشكل خاص والسودان بشكل عام، بدقة تنم عن فهم عميق للجيوستراتيجيا وتحولاتها. كان يحذر بأن “تطورات الفاشر ليست مجرد تغيرات محلية بل هي مؤشر لمرحلة جديدة من مراحل السودان.
وتنبأ بأن التطورات في دارفور قد تفتح الباب أمام مشاريع إقليمية لإعادة تنظيم السودان إلى كيانات متعددة كيان في الغرب يتميز بتركيبة اجتماعية معقدة، وكيان في الجنوب له ارتباطات إقليمية متشابكة، وكيان في الشرق يتأثر بمحيط إقليمي مؤثر. وكان يحذر من أن “دارفور قد تتحول إلى منطقة جذب لاهتمامات متعددة”، وأن “النزاع قد يشهد تحولاً من إطار سياسي إلى إطار هوياتي”.
. تحذيرات الجزولي من الاتفاق الإطاري ومخاطر المحتملة وبذلك حذر الشيخ محمد علي الجزولي وبقوة مما أسماه “الاتفاق الإطاري”، الذي وصفه بأنه “خطورة كبرى تهدف إلى إعادة صياغة واقع السودان”. وكان يؤكد أن “هذا الاتفاق ليس اتفاقاً سياسياً تقليدياً بل هو وثيقة تحوي مضامين تهدف إلى إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية وإعادة تعريف السيادة وإعادة تشكيل الدولة وفقاً لرؤى خارجية”.
وتنبأ بأن “الاتفاق الإطاري قد يفتح الباب أمام أدوار دولية تحت غطاء الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي”، محذراً من أن “هذا الدور قد لا يخدم المصالح الأساسية للشعب السوداني بل سيكون أداة لتحقيق مصالح قوى كبرى في المنطقة”.
. قدم الشيخ الدكتور محمد علي الجزولي رؤية واضحة للمخاطر والتحذيرات، كان أبرزها: “لا تثقوا بشعارات سياسية براقة فهي غطاء لمشاريع إقليمية”، و”إياكم والانجرار وراء الخطاب العرقي فهو المأزق الذي يريدون أن تقعوا فيه”. وكان يؤكد أن “المواجهة الحقيقية تبدأ بالوعي وبكشف الحقائق وإزالة الأقنعة”.
. وحذر من أن “التطبيع مع إسرائيل هو قرار استراتيجي ذو آثار عميقة على القضية الفلسطينية والأمة الإسلامية”. ونبه إلى أن “الارتباط بجهات إقليمية يعني تسليم مقدرات البلاد لقوى تريد إعادة تشكيل السودان”. وكان يردد “لا تصدقوا أن الحرب في دارفور حرب قبلية بحتة بل هي صراع ذو أبعاد متعددة”.
الجزولي والترابي: التكامل في الرؤية والاختلاف في الأداء من هذا المنطلق كان الترابي قد مثل العقل المنظر للصحوة الإسلامية في السودان، فإن الجزولي مثل الصوت التحذيري الذي ينبه من المخاطر والانحرافات. كلا الرجلين شارك في تشكيل الوعي لكل للسودانيين، لكن بأدوات مختلفة وبمناهج متكاملة.
. الترابي كان يصعد إلى المنابر لينظّر للمشروع الحضاري، بينما الجزولي كان ينزل إلى الشارع ليحذر من المخاطر المحدقة. هذا التكامل بين التنظير والتحذير، بين البناء والتحصين، هو ما شكل ظاهرة فريدة في المشهد الفكري بالسودان.
. لم يكن احتجاز الشيخ محمد علي الجزولي و والشيخ انس عمر معاً عملية أمنية تقليدية، بل كانت إستراتيجية موجهة تهدف إلى التأثير على حركة الرأي العام والتأثير الشعبي. الجهات المسؤولة أدركت أن هذا الثنائي يشكلان معاً تأثيراً كبيراً على المشهد العام، فقررت التحرك ضدها في وقت واحد.
. شيخ محمد علي الجزولي يمثل العقل المفكر الذي يخطط ويحلل ويتنبأ، بينما شيخ أنس عمر يمثل الذراع التنفيذي الذي ينظم ويحشد ويحرك. معاً كانا يشكلان ثنائياً مؤثراً. احتجازهما كان رسالة واضحة بأن أي محاولة للجمع بين الفكر والحركة، بين التنظير والتعبئة، ستواجه بإجراءات حازمة.
. لا يزال مصير الشيخ الجزولي و شيخ أنس عمر مجهولاً رغم مرور الوقت على اختفائهما. كل المؤشرات تدل على أنهما إما في مراكز احتجاز غير معلنة، أو تم نقلهما خارج السودان في إطار ترتيبات سياسية مع جهات إقليمية.
. بعض الروايات غير المؤكدة تتحدث عن وجودهما في مراكز احتجاز خاصة بأحد الدول المجاورة التي لها علاقات مع الأطراف السودانية. الغموض الذي يحيط بمصيرهما هو جزء من الإستراتيجية النفسية التي تستخدمها القوى الفاعلة للتأثير على أنصارهما. الأسوأ من ذلك، ما يتداوله نشطاء من تعرضهما لظروف احتجاز قاسية بهدف التأثير على إرادتهما الفكرية وإقناعهما بالتراجع عن مواقفهما.
. لم يكن الشيخ الدكتور محمد علي الجزولي مجرد داعية أو خطيب جمعة عادي وكان اماما لمسجد المعراج بالطائف مربع 51 وكانت اتشوق لخطبه كل يوم جمعه ثم انتقل الى مسجد الجريف غرب الحارة الاولى وكانت خطبه طيلة الفترات السابقة كانت تحمل مشروعاً فكرياً متكاملاً يجمع بين عمق التراث الإسلامي وحداثة التحليل السياسي وقوة الحضور الجماهيري. ما يثير الاهتمام في شخصيته ذلك التشابه المذهل مع الشيخ حسن الترابي، ليس في الفكر فحسب، بل في القدرة على قراءة التحولات الجيوسياسية باستبصار نادر.
. أدرك شيخ محمد علي الجزولي مبكراً أن المرحلة في السودان ليست بين نظام ومعارضة تقليدية، بل هي مرحلة مفصلية بين رؤيتين: أن القوات المسلحة تحمل هوية الأمة ورسالتها الحضارية، وان الحرية والتغيير تهدف إلى إعادة تشكيل هوية الشعب السوداني وفق رؤى ومختططات خارجية دولية تسعى الى تقسيم السودان الى دويلات حسب تحليله.
. من أشد تحليلات شيخ الجزولي تأثيراً تلك التي تتعلق بدارفور والمناطق الغربية، حيث حذر بشكل متكرر من أن قوات متنبا بقوات الدعم السريع التي تسعى لإثارة النزعات العرقية في هذه المناطق خدمة لأجندات خارجية وفق رؤيته.
. كان يؤكد في خطبه أن “الفاشر ستشهد تطورات كبيرة بل قد تدخل مرحلة جديدة إذا استمرت هذه القوى في السيطرة على مقاليد الأمور”، محذراً من أن تطوراتها لن تكون مجرد تغيرات محلية، بل ستكون مؤشراً لتحولات في الهوية السودانية والوحدة الوطنية. وكان يرى أن استهداف دارفور يأتي في إطار مخطط أكبر يهدف إلى إعادة رسم خريطة السودان الديموغرافية والسياسية.
. تميز الجزولي بأسلوب بلاغي فريد جمع بين سلاسة التعبير وقوة الحجة ودقة التصوير، مما جعل خطابه أداة مؤثرة في معركة الرأي العام. لم يكن يلقي كلمات عادية، بل كان يصوغ مشاهد حية تنفذ إلى الأعماق وتحرك المشاعر وتثير الفكر.
. خطبه كانت تتميز بقدرتها على صياغة المفاهيم وإطلاق المصطلحات التي تتحول إلى شعارات ترددها الجماهير. مصطلح “الاطاري” لم يكن مجرد كلمة عابرة، بل كان مفهوماً سياسياً وفلسفياً عميقاً يختزل حالة العلاقة مع الخارج في رأيه. وكان يكرر أن “الحرية التي تقدمها قوى التغيير هي حرية مشروطة تشبه حريات محدودة”.
. الاهتمام الذي حظيت به شخصية الجزولي لم يقتصر على الداخل السوداني بل تجاوزه إلى دوائر صنع القرار الدولية، وذلك لأن الرجل كان يمتلك رؤية استراتيجية تختلف مع مشاريع إقليمية ودولية.
. أدركت هذه العواصم أن الجزولي يمثل نموذج المفكر الإسلامي المستقل الذي يرفض التبعية ويقاوم التطبيع ويدعو إلى وحدة الأمة واستقلال قرارها. كان يحذر بشكل متكرر من “مشاريع إعادة تنظيم السودان” التي تهدف إلى تحويله إلى كيانات صغيرة يسهل التأثير فيها.
. التشابه بين شيخ محمد الجزولي وشيخ حسن الترابي لم يكن صدفة، بل كان تشابهاً في الرؤية والمنهج والمصير. كلاهما كانا مفكرين إسلاميين استراتيجيين، وكلاهما امتلكا قدرة فائقة على تحليل الأحداث والتنبؤ بالمسارات، وكلاهما تعرضا لمواقف صعبة.
شيخ حسن الترابي حذر من التدخلات الدولية في العراق وتنبأ بتبعاتها، و وشيخ محمد علي الجزولي حذر من التحولات السياسية وتنبأ بتداعياتها. شيخ حسن الترابي كان يرى أن المعركة مع الغرب هي معركة حضارية، وشيخ محمد الجزولي كان يؤكد أن التحدي هو تحدي الهوية. هذا التشابه هو ما جعل جهات إقليمية متعددة تهتم بشيخ محمد الجزولي.
. احتجاز شيخ الجزولي لم يكن مجرد إجراء أمني تقليدي، بل كان اعترافاً ضمنياً بقوة تأثيره وخطورة مشروعه الفكري. الجهات التي احتجزته تدرك أن احتجازه قد يزيد من قوة صوته ويحول كلماته إلى رؤى تتحقق، لكنها فضلت هذا الخيار على خطر ترك حراً يقدم تحليلاته.
. أصبح شيخ الجزولي يمثل صوتاً للسودان الذي يرفض أن يختفي، وصوتاً للحقيقة الذي لا يخفت رغم كل محاولات إسكاته. في غيابه تحول من داعية إلى رمز، ومن مفكر إلى ظاهرة تتناقلها الأجيال.
. في الختام رغم الغياب القسري للشيخ الجزولي والشيخ أنس عمر، فإن كلماتهما وتحليلاتهما مازالت حية. لقد تحققت كثير من رؤاهما واحدة تلو الأخرى بدقة ملحوظة. تطور الأوضاع في دارفور والتحولات في السودان وتصاعد النزاع، كلها أمور حذر منها شيخ الجزولي قبل سنوات.*
كلماته أصبحت اليوم مرجعاً لكل من يريد فهم حقيقة ما يحدث في السودان. الغياب لم يقتل الأفكار بل حولها إلى إرث فكري يضيء الطريق للأجيال القادمة. فالحق كلمة تبقى، والمواقف تخلد، والأفكار لا تقتل بغياب أصحابها.


