.لم تعد ساحات المعارك في جبهات القتال، بل انتقلت إلى الشاشات التي نحملها في جيوبنا. السودان، الدولة التي ما زالت تتلمس طريقها نحو السيادة الحقيقية، أصبح هدفًا لحرب من نوع جديد – حرب السيطرة الرقمية. في هذا المقال، نكشف كيف أصبح الهاتف الذكي منصة تجسس، وكيف تشارك قوى كبرى في ابتلاع السيادة الوطنية من خلال الفضاء الإلكتروني.
. الاستعمار الجديد يعيش في هاتفك!
لم تعد الحروب تُخاض بالدبابات والطائرات فقط، بل تحولت إلى صراع خفي في الفضاء الإلكتروني، حيث تُسرق البيانات وتُفرض السيطرة عبر الشاشات الصغيرة. السودان، كغيره من الدول النامية، يواجه حربًا غير معلنة: حرب الهيمنة الرقمية، حيث تتحول أدوات التواصل والتكنولوجيا إلى أسلحة للتجسس والتحكم. فهل ندرك أن خرائط “جي بي إس” الأمريكية، ومنصات التواصل الخاضعة للسيطرة الغربية، وشبكات الاتصال المُدارة من قبل شركات إماراتية وإسرائيلية، هي أدوات للاستعمار الحديث؟
.أمريكا وإسرائيل والإمارات: ثلاثي الهيمنة الرقمية
في السنوات الأخيرة، كشفت تقارير دولية عن شبكة تجسس مُمنهجة تقودها الولايات المتحدة وإسرائيل والإمارات، تستهدف دولًا مثل السودان عبر:
1.برامج التجسس المتطورة: مثل برنامج “بيغاسوس” الإسرائيلي، الذي تم بيعه للإمارات واستُخدم لاختراق هواتف نشطاء وقادة سياسيين في 45 دولة، بما في ذلك السودان. هذه البرامج تتيح الوصول إلى كل رسالة، مكالمة، أو صورة على الهاتف، بل وتتحكم في الجهاز عن بُعد .
2.السيطرة على البنى التحتية: تعتمد معظم شبكات الاتصال في إفريقيا على أنظمة إماراتية مثل “ثريا سات”، التي تتيح للتكنولوجيا الإماراتية – المدعومة أمريكيًا – التنصت على حركة البيانات وتحليلها .
3. الحروب السيبرانية: ساحة مواجهة غير مرئية
في السنوات الأخيرة، تصاعدت وتيرة الحروب السيبرانية في المنطقة، حيث أصبحت الهجمات الرقمية وسيلة ضغط واستهداف للدول الرافضة للتطبيع أو المتحفظة على السياسات الغربية. وفي المقابل، برزت مجموعات قرصنة من دول مثل السودان – أشهرها مجموعة “Anonymous Sudan” – التي أعلنت مسؤوليتها عن هجمات إلكترونية استهدفت مواقع حكومية وشركات إسرائيلية، احتجاجًا على العدوان على غزة ورفضًا للتطبيع. وقد ردّت بعض الجهات الإسرائيلية بتصريحات عن نوايا لتوسيع نطاق “الدفاع السيبراني الاستباقي”، مما يُنذر بتحول الفضاء الرقمي إلى جبهة صراع جديدة.
. أدلة ميدانية: كيف حوّلت أمريكا البيانات إلى سلاح؟
لم تكن الهجمات الرقمية مجرد نظريات، بل تحولت إلى أدوات للابتزاز والسيطرة:
.الابتزاز السياسي: كشفت وثائق ويكيليكس أن الإمارات استخدمت بيانات مسربة من هواتف مسؤولين سودانيين لابتزازهم، بهدف تمرير صفقات استثمارية مجحفة، مثل التنازل عن ميناء بورتسودان .
.التجسس الاقتصادي: البنية المصرفية السودانية بين الاعتماد والتهديد
تعتمد البنية المصرفية في السودان على برمجيات وأنظمة مالية مستوردة ومغلقة المصدر، غالبًا من شركات أمريكية أو أوروبية، مما يفتح الباب أمام احتمالات مراقبة أو تعطيل جزئي في حال نشوب توترات سياسية أو فرض عقوبات. ورغم عدم توفر دلائل مؤكدة على حدوث تعطيل مباشر في قاعدة “واو” الجوية كما يُشاع، إلا أن الخبراء يحذرون من أن الاعتماد على أنظمة أجنبية في البنى التحتية الحساسة يجعل البلاد عرضة للابتزاز التقني والرقابة غير المرئية، خاصة أثناء فترات التفاوض المالي أو التوترات الدولية.
. التضليل الإعلامي: الإمارات و”الروبوتات” الرقمية كسلاح دعائي
في عام 2023، كشفت تقارير دولية أن الإمارات استخدمت شبكات من الحسابات الآلية (بوتات) على منصة تويتر (X حاليًا)، لتضليل الرأي العام وتوجيه الخطاب السياسي والإعلامي في عدة دول من بينها السودان. ووفقًا لتقرير Freedom House وتقارير Middle East Eye وBeam Reports، موّلت الإمارات هذه الحملات الرقمية للتأثير على النقاشات العامة، وترويج أجنداتها، عبر نشر محتوى مُنسّق يهاجم القوى المدنية، ويبرر مشاريعها في الموانئ والاستثمار. هذا الأسلوب يُعد شكلًا حديثًا من الحرب الناعمة التي تدار من خلف الشاشات.
نشرت أخبارًا كاذبة لزعزعة استقرار السودان، مستفيدةً من تحالفها مع شركات التكنولوجيا الأمريكية .
. البوصلة الصينية: الخروج من نطاق “جي بي إس” الأمريكي
لم يعد الخيار بين العزلة أو التبعية. نظام “بيدو” الصيني (BDS) أصبح بديلاً سياديًا لـ”جي بي إس”، حيث تعتمده دول مثل إيران وباكستان لتأمين ملاحتها الجوية والبحرية. لو تحول السودان إلى “بيدو”، فسيحمي:
.الملاحة العسكرية: منعًا للتجسس على تحركات الجيش
. البيانات الاقتصادية: حمايةً للمعاملات المالية من المراقبة.
.السيادة الرقمية: كسر احتكار الغرب لتكنولوجيا التوجيه العالمي .
.بناء القلعة الرقمية السودانية
التحرر الرقمي ليس خيارًا، بل ضرورة للبقاء. لتحقيقه، يجب:-
.تشريع السيادة: سن قوانين تمنع تخزين بيانات المواطنين خارج السودان، وتجرم التعامل مع برمجيات التجسس.
.الاستثمار في البدائل: تطوير أنظمة تشغيل محلية، واعتماد شبكات اتصال وطنية مغلقة.
.التوعية الرقمية: تدريب المواطنين على أدوات التشفير، مثل “سيغنال” و”بروتون ميل”.
.تحالفات استراتيجية: التعاون مع دول مثل الصين وروسيا لبناء بنية تحتية رقمية مستقلة.
– مستقبل السودان يبدأ بتحرير بياناته
السيادة في القرن الحادي والعشرين لم تعد تُقاس بالحدود الجغرافية، بل بالقدرة على التحكم في الفضاء الإلكتروني. السودان أمام مفترق طرق: إما الاستمرار كسوق مفتوح للتجسس، أو خوض معركة التحرر الرقمي.
> “بياناتنا هي أرضنا الجديدة.. ومن لا يحميها يفقد سيادته مرتين”.
المعركة ليست سهلة، لكن كل خطوة – من مقاطعة “جي بي إس” إلى حظر برامج التجسس – هي انتصار صغير في حرب الاستقلال الكبرى.