.في مهمة هي الأصعب من نوعها في الآونة الأخيرة، حيث تخطت حدود الواجب لتدخل في نطاق الملحمة الإنسانية، نجح رجال الدفاع المدني بعد عملية معقدة وشاقة في انتشال جثة طفل لم يتجاوز عامه التاسع، كانت قد قطعت إلى أجزاء وألقيت في مرحاض بضاحية حطاب بمحلية شرق النيل. هذه الحادثة المروعة التي هزت ضمير المجتمع، لم تكن مجرد جريمة قتل عمد اعتيادية، بل تحولت إلى اختبار حقيقي لقدرات ومهارات وإنسانية فرق الإنقاذ التي واجهت وضعاً بالغ التعقيد التقني والنفسي.
.البداية: بلاغ ينذر بالكارثة: –
لم تكن ساعة عملية انتشال الجثة في ضاحية حطاب كأي لحظة انتشال عادية، فمن داخل مرحاض عادي، كان ينبعث شرٌ غامض تنفست منه رائحة الموت، حتى لم يعد بالإمكان إخفاء الجرم البشع. جاء البلاغ إلى قسم التكامل بمحلية شرق النيل مفزعاً ومبهم المحتوى، يشير إلى وجود جثة داخل مرحاض. لم ينتظر رجال الشرطة والدفاع المدني ولاية الخرطوم طويلاً، فالفزعة كانت أكبر من أي إجراء روتيني. تحرك على الفور فريق إنقاذ متكامل بقيادة المقدم ربيع محمد، مدير الإنقاذ البري، والمقدم شرطة يس عبد الرؤوف، مدير الدفاع المدني بمحلية شرق النيل، معززاً بقوة القسم الضابط المناوب والمتحري المختص، مسرعين إلى موقع الحادث الذي بدأت تفوح منه رائحة الكارثة.
المعاينة: لغز تقني وإنساني –
عند الوصول، وجد فريق التدخل نفسه أمام معضلة حقيقية. فالمكان ليس سهلاً والجريمة ليست مألوفة. المرحاض لم يكن مجرد حفرة بسيطة، بل كان عبارة عن صبة خرسانية واحدة مصمتة ومغلقة، مصممة بطريقة تجعل الوصول إلى داخلها مهمة تنفيذية شبه مستحيلة بالطرق التقليدية. لم يكن مجرد انتشال جثة، بل كان التحدي هو كيفية الوصول إليها أساساً دون التسبب في انهيار الهيكل الخرساني أو الإضرار بالجثة نفسها، والتي كانت المصدر الوحيد للدليل على فك لغز الجريمة البشعة. هنا، برزت الحاجة إلى حل هندسي خلاق، يعتمد على الدقة والمهارة والصبر، أكثر من الاعتماد على القوة الغاشمة.
التخطيط: بين الهندسة وجبروت الإرادة: –
في سيناريو أشبه بأفلام الإنقاذ الدولية، لكنه على أرض الواقع السوداني، بدأ قادة الفريق في وضع خطة عبقرية. الحل الوحيد كان حفر نفق موازٍ لمسار “الخنزيرة” أو البالوعة، يصل إلى نقطة تمكن من الوصول إلى الجثة من الجانب. هذا القرار لم يكن خالياً من المخاطر، فالحفر في مثل هذه التربة يحمل خطر الانهيار في أي لحظة، ناهيك عن التعرض المستمر للغازات السامة والروائح الكريهة التي لا تحتمل. لكن إرادة إنقاذ براءة ذلك الطفل ودفع الظلم عنه كانت أكبر من كل عقبة. بدأت العملية بكل هدوء وحرفية، كل فرد يعرف مهمته بدقة، في تعاون نادر بين كوادر الدفاع المدني والشرطة.
.التنفيذ: بطل في مواجهة الجحيم: –
بعد انتهاء الحفر وتهيئة النفق، جاءت اللحظة الحاسمة، لحظة المواجهة مع الواقع المرير في أعماق الظلام. تطوع الرقيب يوسف الطيب، أحد أفراد الفريق، لدخول النفق الضيق والمظلم لتنفيذ المهمة الأكثر قسوة. في عملية تتطلب شجاعة نادرة وقوة نفسية هائلة، زحف الرقيب يوسف في مسار ضيق، محتملاً كل الصعاب، حتى تمكن من إحداث فتحة صغيرة في جدار المرحاض الخرساني. ما رآه داخل ذلك القبر الاسمنتي كان مشهداً لا ينسى، جثة الطفل المسكين مقطعة الأجزاء، مشهد يكسر القلوب ويهز المشاعر. لكن إحساس الواجب والإنسانية كانا أقوى. بكل رباطة جأش وألم صامت، قام الرقيب بجمع كل جزء من أجزاء الجثة الطاهرة، ووضعها بعناية فائقة في كيس الجثث، احتراماً له ولمسيرة عذابه، ثم بدأ في الزحف عائداً، حاملاً معه الثقل الأكبر، ليس ثقل الجسد، بل ثقل القضية والإنسان.
.التسليم: العدالة تبدأ خطوتها الأولى: –
بخروج كيس الجثث من ذلك القبر الحديث، ساد صمت مهيب الموقع، صمتٌ فيه حزنٌ وغضبٌ وصمود. سلمت الجثة فوراً للمتحري الموجود في البلاغ، لتبدأ رحلة جديدة، رحلة البحث عن الجاني وإنزال أقصى عقوبات العدالة به. هذه الخطوة لم تكن نهاية المطاف، بل كانت البداية الحقيقية لملف قضائي معقد، حيث ستصبح تلك البقايا البريئة هي الدليل الرئيسي في كشف غموض الجريمة وتحديد هوية القاتل الغادر وملابسات الحادث المأساوي.
.الجريمة: نظرة على دوافع العنف ضد الأطفال: –
بحسب تقارير حديثة لمنظمة الصحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، تشهد العديد من المجتمعات، لا سيما تلك التي تعاني من عدم استقرار اقتصادي واجتماعي، ارتفاعاً مقلقاً في معدلات العنف الموجه ضد الأطفال. وتشير التحليلات النفسية والاجتماعية إلى أن الجناة في مثل هذه الحالات غالباً ما يكونون من المقربين للضحية أو من داخل المحيط الأسري، وأن الدوافع تتراوح بين الأمراض النفسية الحادة، وتفشي تعاطي المخدرات، وتردي الأوضاع المعيشية التي تولد غضباً مكبوتاً يبحث عن أبرياء لتفريغه. هذه الجريمة ليست بمعزل عن هذا السياق العالمي، بل هي صورة مأساوية لتجلياته المحلية.
.الدعم النفسي: عندما يدفع المنقذ ثمن شجاعته: –
غالباً ما يتم تجاهل الجانب النفسي لفرق الطوارئ والإنقاذ التي تتعامل بشكل مباشر مع مشاهد العنف والصدمات. التعرض لمشهد مثل جثة طفل ممزقة هو تجربة صادمة تترك ندوباً عميقة في النفس، وقد تؤدي إلى اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) وغيرها من الآثار النفسية طويلة المدى. تؤكد البروتوكولات الحديثة في إدارة الكوارث على ضرورة توفير الدعم النفسي الفوري والمستمر لأفراد فرق الإنقاذ بعد تدخلهم في حوادث بهذا المستوى من الفظاعة. إن الاعتناء بصحة هؤلاء الأبطال النفسية ليست رفاهية، بل هي استثمار في استمرارية قدراتهم على العطاء وحماية لصحتهم التي يضحون بها من أجل المجتمع.
الخاتمة: بين الواجب والإنسانية: –
قصة انتشال جثة الطفل البطل من أعماق ذلك المرحاض ليست مجرد خبر عابر في صحيفة، إنها ملحمة سطرها رجال الدفاع المدني بدمائهم وإرادتهم وإنسانيتهم. لقد أثبتوا أن الواجب لا يقف عند حدود الأوامر، بل يتعداها إلى حيث نداء الضمير والإحساس بالإخوة في الإنسانية. في مواجهة أقسى الظروف وأكثر الجرائم بشاعة، وقفوا صامدين، مثلوا بذلك جنوداً مجهولين في معركة ضد البربرية والظلام. هذه الحادثة تذكرنا جميعاً بضرورة تكثيف الجهود المجتمعية لمكافحة العنف ضد الأطفال، وتعزيز آليات الرعاية والحماية، وفي نفس الوقت، توجب علينا أن نرفع القبعة إجلالاً وإكباراً لأبطال الدفاع المدني الذين يخوضون معاركهم الصعبة في صمت، حاملين على عاتقهم أمانة إنقاذ الحياة وكرامة الإنسان، حتى بعد رحيله.