التقاها بعد عشر سنوات…
رأى امرأة تحمل رضيعا تقبل عليه فلم يصدق عينيه، ياترى هل هي؟
أم انها أخرى تشبهها؟!
فإذا بها تفاجئه:
-السلام عليكم استاذ أسامة
-عليكم السلام…أنتي سلمى؟!
-أيوة أنا سلمى.
كأنه في حلم!
…
قبل سنوات عشر كان أسامة يدرس في جامعة الخرطوم، وأعتاد -خلال الإجازات- المساعدة في تدريس الطلبة بمدارس قريته دون مقابل، ابتدر ذلك بالمدراس المتوسطة، ثم انتقل إلى المدرسة الثانوية (العليا) للبنين في المدينة المجاورة، حيث يقوم بتدريس مادة الفيزياء والكيمياء بطلب من مديرها ومجلس الآباء، كان محبا للتدريس مما جعل الطلبة يحبون اسلوبه الجاذب في توصيل مادتي الكيمياء والفيزياء.
في عصر يوم جمعة زار بيتهم مدير مدرسة البنات الثانوية في المدينة المجاورة بمعية عم له ليطلب منه المساعدة في تدريس طالبات الصف الاول والثاني الثانوي مادة الفيزياء بسبب هجرة عدد من الأساتذة ولم يبق سوى استاذ فيزياء واحد تم تفريغه لتدريس الصف الثالث.
بدا له أن يعتذر لكونه خجول بطبعه ولاوصل له بعوالم الطالبات، إنه وحيد امه التي تزوجها والده لتربية ابنة وحيدة انجبتها شقيقتها الكبرى وتوفاها الله خلال الانجاب، ثم توفى الوالد بعد أن راى أسامة النور بأعوام ثلاث.
واصل مدير المدرسة كلامه وقال:
استاذ الفيزياء الوحيد يا أبني اسامة تم تفريغه لتدريس الصف الثالث وكما تعلم فإن المدرسة ثلاثة أنهر، واخبره عمه بأن ابنة اخته طالبة في الصف التاني من المدرسة فما كان من أسامة إلا القبول.
وما ان اشرقت شمس يوم التالي انتقى من ملابسه أجملها، وحرص على سؤال اخته وابنتها عن تناسب ملابسه وتناسق الألوان، وزاد من بخات العطر، ولمّع حذاءه، وقالت له والدته وهي تودعه ضاحكة، ان شاء الله ياأسامة ياولدي تعجبك واحدة من الطالبات وتبقا ليك عروس، فضحكوا جميعا…
انطلق مع بنت اخته إلى المدرسة، وأدى حصة الفيزياء الأولى بنجاح وامتياز لطالبات الصف الثاني، لكنه ظل طوال الحصة ينظر إلى الحائط الخلفي خلال شرحه لهن ماكتبه على السبورة، وهو بذلك يهرب من نظرات بعض الطالبات الجريئات، فقد سمع احداهن تقول لزميلتها:
-حلاااتو، وكمان باين عليهو خام.
دهش أسامة لهذه الجرأة،
وبقي يهرب بنظره إلى الحائط كلما استدار اليهن.
سلمى كانت تجلس في الصف الثاني،
مهذبة…
ومجتهدة…
وجميلة…
وهااادئة، بالكاد تسمع صوتها عندما تجيب على سؤال، لكن شدّه إليها حزن دفين يكسو وجهها المستدير كالقمر، وإذا بآثار دموع في عينيها كل صباح!…
ماكان منه إلا أن سأل عنها زميلتها وابنة اخته فقالت:
-سلمى دي زولة غريبة مامن المنطقة، ومافي واحدة فينا بتعرف عنها حاجة، لكن هي زولة طيبانة، بس من سنة أولى لقيناها ماعاوزة تخش فينا فخليناها علي راحتا…
استجمع أسامة قواه مرة وسألها فأطرقت ولم تجبه!
فما كان منه إلا أن شرع يسأل عنها هنا وهناك…
علم بأنها تقيم مع أخت لها على أطراف المدينة، فذهب يوما إلى حيث يعمل زوج أختها بائعا في أحد المحال التجارية في سوق المدينة وعرفه بنفسه، وحاول جاهدا مصادقته لكن لم يجد منه رغبة في ذلك…
وأنتهى العام الدراسي، وكذلك أنتهت أجازته السنوية ليعود إلى جامعته في العاصمة، فإذا به يجد نفسه مشغول البال بسلمى، كلما استلقى على فراشه ليلا يلوح له وجهها الملائكي على سقف الغرفة، واذا بعينيها الحزينتين وبقايا الدموع يجعلان قلبه يخفق باضطراد…
شكلك يا اسامة وقعت وماسميت، قال ذلك وهو يشد إليه الغطاء لينام…
لم تكن الموبايلات قد ظهرت في ذلك الزمان، فأرسل إليها رسالة من خلال ابنة أخته بعد ان استحلفها في رسالة معها بأن تحفظ سره، وأوضح لسلمى حقيقة مشاعره. كتب لها بأنه سيتخرج هذا العام ويعود إلى البلد ليخطبها، لكن لم يحظ منها بأي رد، وانقضى العام الدراسي، وجاء الى أهله يحتقب حبا قضّ عليه مضجعه، جاء معاهدا نفسه بأن تكون له سلمى زوجا،
وفي صباح اليوم التالي أنطلق إلى المدرسة وسلم على المدير الذي رحب به بحرارة، ثم اتجه إلى تالتة أحياء (ب) بعد الاستئذان من الوكيل، ذهب إلى الفصل يسبقه الشوق قبل العينين، فالتقت عيناه بعيني سلمى، وأحس -يقينا- بفرحتها لرؤياه، وابتسمت له -بحياء- ابتسامة ترد الروح، لكنها سرعان ما أطرقت لتنظر في كتاب أمامها، وعندما خشي اسامة أن تفضحه عيناه نظر إلى الطالبات وألقى عليهن التحية، فرددنها بأحسن منها، ووقفن له احتراما واعزازا، ومافتئ الضجيج يعم الفصل بكلمات الترحيب تعبيرا بسعادتهن بقدومه، وطالبنه بحصة فيزياء فاعتذر بأنه جاء للسلام والاطمئنان عليهن فقط.
-يا استاذ اسامة والله كلنا عاوزنك تمسكنا فيزياء، ومن دربنا دا حنمشي نكلم المدير والوكيل…
وعند الانصراف التقى بسلمى وأخبرها برغبته في زيارتهم بمنزل أختها مساء، ترددت في البدئ، ثم هزت راسها إيجابا…
وفي المساء، أخرج هدايا أتى بها لها ولأختها وزوج اختها ويمم تجاه بيتهم في أطراف المدينة…
يا الله
كان البيت غرفة واحدة من الطين محاطة بأعواد من الشجر وبعض البروش، وامام الغرفة تلاتة أسرة قديمة وكنبة مهترئة ومقعدين حديديين، والمطبخ راكوبة بها بعض الأواني القليلة والقديمة…
استقبلته سلمى بكامل بهائها، وسعد حقا عندما لم يجد النظرة الحزينة في عينيها، فرح كثيرا لإحساسه بسعادتها بمجيئه،
واقتربت من المطبخ حيث تجلس اختها وقالت وهي تشير إليه:
-دا أستاذ أسامة ياسوسن، فإذا بأختها تنهض وتأتيه متثاقلة لتقول دون ان تمد له يدا:
-أهلا بيك يا استاذ.
ثم اضافت:
-معليش، البيت ما قدر المقام يا أستاذ…
تفاجأ بجفاء ترحيبها ولم يسعف بإجابة، لكن سلمى قالت:
-سوسن دي يادوب جاية من برة، كان عندها شغل كتير اليوم كلو، فعمد إلى شئ من المرح ليغير أجواء اللقاء:
-يابختك الليلة يا أسامة، عملوك استاذ…
فجاملته سلمى وهي تضحك قائلة:
-والله يا سوسن استاذ اسامة دا الليلة البنات من شدة مافرحانات بي جيتو قالن إلا يجمعن قروش ويجيبو ليهو هدية، يجي هسي يقول لينا انو ما أستاذ؟!
قال اسامة موجها كلامه إلى سوسن:
-وين زوجك يا اخت سوسن، لسة مارجع من الشغل؟
-أيوة لسة، بيتأخر لغاية الساعة عشرة، قالت ذلك ثم اتجهت إلى المطبخ لتأتي بصينية شاي بدا واضحا أن سلمى هي التي جهزته من قبل…
قدم اسامة لهما الهدايا، فرفضتها سوسن، لكنها قبلتها بعد اصرار اسامة وإلحاح سلمى، ثم استاذنت سوسن وذهبت إلى الغرفة.
قال اسامة:
-شوفي ياسلمى، انا بصراحة على الرغم من عدم ارتياحي من مقابلة اختك دي؛ لكن اعرفي اني زول بحب دخول البيوت من أبوابا، أسمحي لي بكرة ان شاء الله أجيب الوالدة ونجي نتعرف عليكم ونتكلم مع أختك دي وزوجها عشان أخطبك.
فأطرقت سلمى مليا ثم قالت:
-أولا أشكرك والله على مشاعرك الجميلة تجاهي يا أستاذ أسامة، بس عليك الله أديني فرصة اتكلم مع سوسن وارد عليك.
-ياسلمى دي حياتك وحياتي ومافي زول مهما كان حيشاركنا فيها، ثم بصراحة الفقر ماهو عيب، ياما ناس اغنياء فجأة بيفقروا، وياما ناس بيفتحا ربنا عليهم، وتأكدي اني ما الناس البقيموا غيرهم بي وضعهم المادي، وبكرة لمن تقابلي امي حتتأكدي من كلامي دا.
-الموضوع والله ماكدا…
-طيب بصراحة هل في زول في حياتك، او في زول اختك عاوزاك ليهو؟
-مافي أي زول والله، لكن في تفاصيل كدة حأتكلم معاك فيها في وكت تاني ان شاء الله، بس ارجوك لمن سوسن تجينا راجعة ماتجيب ليها سيرة للموضوع دا،
أحس أسامة بانقباض، لكنه بعد عودة سوسن أكمل الونسة ثم انصرف…
مضى اسبوع وهو يراها كل يوم في المدرسة ولا يجد منها سوى أبتسامة مقتضبة، واذا بالحزن يزداد في عينيها فتشيح بوجهها عنه فيتبين أنها ليس لديها رغبة في الحديث معه، وفي نهاية الاسبوع جاءته بدفترها برفقة زميلاتها، فإذا برسالة في ثناياه!.
أخذها بلهفة ودسها في جيبه، ولم يستطع صبرا، فض غلافها وشرع يقرأها وهو في طريقه الى البيت:
أستاذي العزيز أسامة
يعلم الله إني حبيتك،
وعارفة وواثقة اني مستحيل ألقى لي زوج زيك في الدنيا دي،
وحقيقي بخت الحا تتزوجها، انت إنسان نبيل وأصيل وحنين، وألف من تتمناك،
اما أنا فحلفتك بالله انك تنساني وتشوف ليك واحدة غيري.
محبتك سلمى
…
شلّت الدهشة تفكيره،
وهال عينيه الدمعُ فلم يعد يبصر شيئا…
وصل إلى البيت فارتمى على فراشه، وفي المساء فكر في الذهاب إليها في بيت اختها لكنه تذكر استقبال اختها له فعدل عن ذلك…
وفي صباح السبت تفاجأ بأنها سحبت ملفها منذ مساء الخميس قايلة لوكيل المدرسة بأن اسرتها ستنتقل إلى مدينة اخرى…
خرج مهرولا إلى حيث يعمل زوج أختها فأخبروه بتركه للعمل بحجة السفر، وإذا بجيران اختها يقولون له بأنهم غادروا المدينة!
ظل يبحث عنها في كل أرجاء المدينة وكل مدينة يتوقع وجودها فيها دون جدوى…
وانصرمت أشهر عديدة دون ان يظهر لسلمى أثر،
فقرر مغادرة السودان للعمل في أحدى دول الخليج، ونأى بنفسه تماما عن عوالم النساء، واحتار أهله في أمره وهم يرون عزوفه عن الزواج عاما وراء عام!
لقد كان يمني نفسه برؤية سلمى مرة أخرى،
لكن تتالت السنوات ولم تظهر سلمى…
وبعد مضي خمس أعوام ألحت عليه أمه بالزواج قائلة:
يا اسامة انت ولدي الوحيد، واختك الحمدلله بي بيتها ومعاها بتها، وياولدي البت الإسمها سلمى دي بعد السنين دي كلها مامعروفة حية واللا ميتة، وأنا الحياة من الموت لي مامعروفة، عاوزاك قبل أموت تجبر بي خاطري وتعرس…
رضخ أسامة لوالدته وهو المعهود عنه بره بأمه، وتزوج ممن اختاروها له، وعاش معها لسنوات ولكن لم ينجبا.
…
انتبه اسامة لصوت سلمى وهي تردد:
-أستاذ أسامة، استاذ اسامة، انت ماسامعني؟!
ما كان منه إلا أن صاح قائلا:
-بالله ماحرام عليكي ياسلمى….
قالت مقاطعة:
-ياريت نقعد في الكراسي ديك ونتكلم بعيد من الناس، فتنحيا جانبا وجلست تهدهد رضيعها وتتحدث دامعة:
-أنا والله ما حصل نسيتك لحظة طول السنين الفاتو ديل يا أستاذ أسامة، ولا حأنساك يوم وانا حية في الدنيا دي.
-طيب…
-معليش خليني بس أكمل كلامي وبعدين قول الحتقولو،
بأختصار ومن الآخر كدة يا اسامة أنا (لقيطة)، يعني بت حرام،
والأخت الكنت قاعدة معاها دي صديقتي ومش اختي، هي برضو (لقيطة)، وأنا قررت أجي معاهم بلدكم دي عشان نبدا فيها كلنا حياة جديدة، ولمن ظهرت أنت في حياتي والله العظيم فرحت كتيييير، وحسيت أنو ربنا رسلك لي عشان تنشلني من العذاب العايشاهو من يومي الوعيت في الدنيا،
لكن صاحبتي سوسن وقفت في طريقي،
هي أصلا كانت متزوجة واحد قبل زوجها الحالي وما كان ورتو انها لقيطة،
وزوجها أهلو عرفو فجأة إنها لقيطة وجو وروها الويل، وفي النهاية زوجها رماها في الشارع رمي الكلاب…
طبعا أنا كان ممكن أقول ليك أي كلام وأكسبك كزوج، لكني عارفة طبايع أهلكم إنهم لازم يسألوا عن اصلي وفصلي، وبصراحة سوسن اقنعتني اني ما اكرر تجربتا، عشان كدة سافرنا للخرطوم، والحمدالله امتحنت ونجحت، وبالمناسبة قريت في جامعة الخرطوم نفس التخصص بتاعك حبا فيك،
واتزوجت لي واحد لقيط، ولدت منو الولد دا ومات رحمة الله، وحلفت الليلة ارجع البلد دي ومعاي ولدي دا بعد سألت وعرفت في الخرطوم بي الزواج دا وعرفت من واحدة من زميلاتي الزمان في الثانوي انك جيت إجازة من برة السودان ومعاك زوجتك، قلت فرصة اني اجي واقابلك واحكي ليك التفاصيل دي عشان ارتاح من قساوتي عليك بي سبب سوسن، وان شاء الله ناوية أبيت الليلة هنا عشان أسافر بكرة في عربات الصباح الماشة الخرطوم، ووالله العظيم يا أستاذ اسامة كنت عاوزة أواجهك قبل سفرنا الفجأة داك وأوريك وقلت اليحصل اليحصل، لكن سوسن وزوجها خوفوني واقنعوني، وطبعا الزمن داك كنت صغيرة.
وهسي حسيت اني ارتحت شوية بعد وريتك، والحمدلله لقيت لي فرصة اني اسافر انا وولدي لي مصر عشان أشتغل هناك أجمع لي شوية قروش عشان اعمل عملية لي ولدي دا، الدكاترة قالوا لي عندو مشكلة في القلب ومحتاج عملية قلب مفتوح، وبعد داك إذا ربنا كتب لينا مخارجة من من مصر لي أي دولة اوربية نسافر إن شاء الله…
شرع اسامة في ضحك هستيري، فتملك سلمى الخوف من ان ينتبه لهما الناس، ونهضت لتبتعد، فأمسك بيدها قائلا:
أنا بضحك ياسلمى لاني جيت الاجازة دي عشان نتم الطلاق انا وزوجتي بالتراضي، والسبب في طلاقنا انو التحليلات الطبية أثبتت انو العامل الرايزيسي في دمي مختلف عن العامل الرايزيسي في دمها، وفشلت كل العلاجات الاخدناها لي الموضوع دا، والاطباء اقنعونا باستحالة الانجاب من بعض،
وهي الطلبت الطلاق، وفعلا اتطلقنا قبل أيام، وكنت ناوي اسافر بعد بكرة…
تزوج اسامة من سلمى، ثم سافرت هي وامه اليه في الدولة الخليجية التي يعمل فيها، وقدر الله بأن يتوفي ابن سلمى بمجرد الوصول وكانوا بصدد اجراء العملية له، وتتابعت السنوات، فانجبت سلمى…
محمد اسامة
وأبوبكر اسامة
وسوسن أسامة
وعاشوا جميعا في سعادة وهناء
انتهت adilassoom@gmail.com
حُبٌّ يخشى النُّور عادل عسوم


