في عالم السياسة الدولية، حيث تُشكل الصورةُ نصفَ المعركة، اندلعت قبل أيام قليلة موجةٌ إعلامية غربية مفاجئة حول ما أُطلق عليه “ملف القاعدة الروسية” في السودان. تقارير في كثيره للصحف الأمريكية تتحدث عن محادثات سرية بين الخرطوم وموسكو لبناء منشأة عسكرية على ساحل البحر الأحمر. لكن الغريب في الأمر أن هذا الخبر انفجر في لحظة دقيقة جداً، بينما كانت الأنظار الدولية تتركز على تقارير الأمم المتحدة عن تورط دويلة الشر في تمويل وتدريب المليشيات المسلحة في دارفور، والتي بدأت توصف رسمياً بـ “عمليات إبادة”. التحليل المتعمق يكشف أن هذه التسريبات لم تكن صادرة عن دوائر استخباراتية محايدة، بل كانت عملية مُحكمة من دويلة الشر، التي تمتلك تاريخاً طويلاً في شراء النفوذ الإعلامي العالمي عبر شبكة معقدة من العلاقات وشركات العلاقات العامة.
لقد لجأت دويلة الشر إلى هذه الخطوة اليائسة بعد أن وجدت نفسها في أسوأ أزمة دبلوماسية منذ تأسيس الدولة. فمع تصاعد الأدلة على دورها في إطالة أمد الحرب السودانية، وضخ الأسلحة عبر حدود دارفور رغم الحظر الدولي، بدأت تتعرض لضغوط غير مسبوقة من حليفتها التقليدية واشنطن ومن شقيقتها الكبرى الرياض. وكان الهدف واضحاً: تحويل أنظار الرأي العام وصناع القرار السياسي من فضيحة “إبادة دارفور” إلى تهديد جديد مزعوم يتمثل في “التوسع الروسي” في البحر الأحمر. لقد أرادت دويلة الشر تصوير السودان كدولة غير مسؤولة تفتح أحضانها لقوى معادية للغرب، مما يُبرر بطريقة ملتوية استمرار دعمها للمليشيات كحاجز ضد هذا التهديد المزعوم.
لكن المفارقة التاريخية هي أن هذه الخطة انقلبت بشكل كامل على مُخطِّطيها. فبدلاً من تخويف واشنطن من التعاون مع الجيش السوداني، سلّط التسريب الضوء على الخطأ الكبير الفادح للإدارة الأمريكية، والتي استمرت لشهور في معادلة الضحية بالجلاد. لقد رأى صناع القرار في البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي أخيراً الحقيقة المرة: أن استمرار التراخي الأمريكي في مواجهة دعم دويلة الشر غير المشروع للمليشيات هو ما يدفع الدول المستقرة إلى البحث عن خيارات بديلة لحماية سيادتها. وهكذا، تحول التسريب من أداة ضغط دويلة الشر إلى جرس إنذار كبير في واشنطن.
الرد الأمريكي لم يتأخر. فبعد أيام قليلة من التقارير، بدأت تظهر تحركات ملموسة تشير إلى انقلاب في المواقف. زيارات دبلوماسية عاجلة، ومكالمات على مستوى رفيع بين واشنطن والرياض والخرطوم، وبدأت الأصوات داخل الكونغرس تتحدث عن ضرورة فرض عقوبات فعلية على الجهات التي تزود المليشيات بالسلاح. لقد فهمت الإدارة الأمريكية أخيراً أن استمرار الحرب في السودان ليس فقط مأساة إنسانية، بل يشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي الأمريكي في منطقة البحر الأحمر، خاصة مع احتمال تفكك الدولة السودانية وخلق فراغ يجذب القوى الدولية المنافسة.
أما الملفت في هذه المعادلة فهو الموقف السعودي الحاسم، والذي ظل لشهور يتسم بالحذر، لكن تسريب دويلة الشر الأخير دفع الرياض إلى الخروج من قوقعتها. إن السعودية، التي ترى في البحر الأحمر منطقة نفوذها المهمة، لا يمكنها الوقوف مكتوفة الأيدي بينما تلعب دويلة الشر بالنار في جوارها المباشر. فتدهور الأمن في السودان يعني تهديداً مباشراً للمشاريع السعودية الضخمة على ساحل البحر الأحمر، مثل نيوم ومشاريع السياحة، ويعني أيضاً فتح الباب أمام اضطرابات قد تمتد إلى داخل المملكة. لذلك، تحولت الرياض من وسيط إلى طرف فاعل رئيسي، تضغط على واشنطن لحسم الموقف ووقف نزيف دويلة الشر في السودان.
فلماذا قد يُلوّح السودان، الذي تربطه علاقات تقليدية مع الخليج والغرب، بورقة روسية في هذه اللحظة بالذات؟ الإجابة لا تكمن في تحول حقيقي نحو موسكو، بل قد تكون ورقة دفعها طرف آخر لغايات خاصة. فالتسريب – كما هو واضح من تفاصيله – لم يصدر من الخرطوم، بل من “دويلة الشر” تسعى لتصوير السودان وكأنه يلعب بورقة روسية، لتحقيق إحدى غايات ثلاث: إما لدفع الشركاء التقليديين للسودان (الخليج والغرب) إلى التخلي عنه أو تشديد شروط تعاملهم معه، أو لخلق ذريعة تبرر تدخلاً أو ضغطاً عليه، أو حتى لدفع السودان نفسه – تحت وطأة هذه الصورة المُصنَّعة – إلى الاقتراب فعلياً من روسيا كخيار مضطر. وهكذا، فإن ظهور السودان كلاعب “يُلوِّح” بالخيار الروسي قد لا يكون سوى نتيجة مخطط من دويلة الشر، وليس قراراً ذاتياً لقيادته.
هذه الحادثة تكشف عن تحول كبير في طريقة اللعب في المنطقة. فدويلة الشر، التي بنت سمعتها كلاعب ذكي وقادر على شراء النفوذ، وجدت نفسها عارية أمام حلفائها. لقد كشفت يأسها وسطحية فهمها للأمور. ففي واشنطن، لم يعد الإعلام يُشترى ببساطة كما في الماضي، خاصة عندما تكون القضية مرتبطة بفضائح إبادة جماعية وتهديد لمصالح كبيرة. لقد أسقطت دويلة الشر أوراقها الأخيرة وفشلت.
النتيجة التي يمكن فهمها من هذه الأزمة المصنعة هي أن المعركة على السودان دخلت مرحلة جديدة أكثر خطورة ووضوحاً. لقد سقطت أقنعة “الوساطة” و”الحل السياسي” التي كانت تُستخدمها دويلة الشر كغطاء لتمديد أمد الحرب. لقد أجبر تسريب دويلة الشر الفاشل جميع الأطراف على الكشف عن أوراقها الحقيقية. واشنطن لم تعد قادرة على التمويه، والرياض لم تعد قادرة على الصمت، ومصر وجدت نفسها مضطرة لتكثيف دعمها المباشر للجيش السوداني كخط دفاع أول عن أمنها. والأهم من ذلك، أن السودان نفسه، من خلال هذه الأزمة، أدرك كيف يتحول من مفعول به بين القوى الكبرى إلى فاعل يستخدم أدوات العصر – بما فيها حروب المعلومات والتسريبات – للدفاع عن سيادته. الحرب على الأرض في دارفور وكردفان مستمرة، لكن المعركة الحقيقية التي كُسبت كانت في غرف العمليات الإعلامية ومكاتب صنع القرار في واشنطن والرياض، حيث أدرك الجميع أن دعم “دويلة الشر” للمليشيات لم يعد سراً يمكن التغاضي عنه، بل أصبح تهديداً مباشراً يستدعي مواجهة مباشرة وصريحة.


