بينما يداول الله الايام بين الناس لا تزال شياطين الإنس تفتأ تصنع الخطط والبرامج والاستراتيجيات بالاستهبال للهيمنة والاستكبار يرسمون الخرائط الهيكلية ويهندسونها ، مثلما يصنعون اللاعبين، ثم يقطعون بها وبهم المراحل حيناً، ويحرقونها احيانا حسبما تفرضه وقائع الأشياء وتقلباتها علي الأرض وسرعة المسير، فالأيام يداولها الله بين الناس قوة وضعفاً وفق السنن.
التصاهر البيولوجي الذي ينتج بشراً، علينا أن نصنع مثله تلاقحاً في رحم الفكرة لينجب النجباء الأذكياء أصحاب العقول المستنيرة والبصائر النافذة ، ومتخلقاً آخر يرتكز في الضمائر ثم يلد بشرا سوياً صاحب قلب كبير يسع الجميع بقوة تحمله وسعة صدره، ومن كل ذلك الخليط نستولد تلاحماً ينشئُ وحدةً عصيةً علي المفسدين مغتصبي العقول وسارقي الضمائر الذين يستعبدون الشعوب ويذلونهم بادواتهم المسمومة التي لا تأبه بالحدود المرعية ولا الخطوط الحمر .
الشعوب السودانية قبل حدود (سايكس بيكو) كانت عبارة عن مجموعات سكانية متمايزة عن بعضها مستقلة بلغاتها وتقاليده مثلما هو حال كل الشعوب في الكون ، ولكن الدولة القطرية الحديثة بحدودها الجغرافية التي صنعتها اتفاقية الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الثانية ادارت مصالح سكانها بحكومات مركزية تمثل المجموع بمختلف عناصرهم وتقاليدهم ولغاتهم وبابتكار المؤسسات التعليمية والمهنية ذات الطابع القومي عمدت لصهر الجميع من مختلف الجهات بداخلها مما اذاب الفوارق شيئاً فشيئاً بالتشارك في التعلم والتعليم لغة وثقافة ، وبزمالة العمل والتوظيف المشترك، واكتملت حلقاته بالتصاهر والتجاور والتساكن.
وبهذا التطور اكتسبت هذه الشعوب المتوازية ثقافات وتقاليد جديدة تمازجت مع ما كانت تمثله من موروث ثقافي وقيمي شكّلت الوجدان السوداني والشخصية ذات الطابع القومي الموحَد ، وقد نتج كل ذلك بفعل الجغرافية المشتركة وحركة السكان والتنقل والترحال بسبب الكوارث أحيانًا وفي احايين أخري كانت المصالح هي الحادي والدافع الاعظم وبذا فقد تواطأت هذه المجتمعات المتفرقة المجتمعة وتشربت الثقافة المشتركة لتعبر عن الوجدان القومي الواحد، مع الاحتفاظ بخصوصية التقاليد والثقافات المحلية لكلٍ.
الغزو الإمبريالي الطامع فيما عند الآخرين هو الآخر قد استورد ثقافات جديدة وإنماط حياة غير مالوفة، هضم الشعب بعضها ، وتقيأ أخري ، ولكن الغازي المتغلب ظل يحرس ارثه وهيمنته بمزيد من التدابير الهيكلية والمؤسسية ذات الطابع الكوني أصالةً، والاقليمي وكالةً لضبط الهيمنة واستمرارها، وترك مساحة لمن هم في منطقة الضغط المنخفض ليتنفسوا دون اختناق مميت لان في بقائهم علي قيد الحياة حياةً له ، ولا يزالون يتدافعون مع المتنافسين لئلا يقلبوا عليهم الطاولة، ولكن الله سن المدافعة كيلا يعم الفساد في الأرض ويهيمن
*(ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض)*.
*(ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامعُ وبِيَعٌ وصلواتٌ ومساجدُ يُذكَر فيها اسمُ الله كثيراً ، ولينصرنّ اللهُ مَن ينصرُه ، إن الله لقويٌّ عزيز)*..
الآن ونحن اذ نرث شتاتاً مبعثراً من تقاليدَ موروثةٍ ومستوردةٍ، وثقافاتٍ محليةً واخري مستجلبةً، وأنظمة إدارة للدولة والمجتمع أهلية ووافدة، وبين ذلك كله ما هو مزيج مختلط..وخلاله يوجد الزبدٌ الضارٌ أو عديم المنفعة، وكذلك يتوفر الصالح المشبع بالفائدة.
ويظل حسن إدارة هذا التنوع تحدياً كبيراً يواجه كل مصلح خاصة وان هذا التنوع المتشعب تحرسه اعين الطغاة الغزاة الطامعين وبكل أدوات الهيمنة برا وبحراً وجواً ، إذ هم لا يزالون يُحكِمون السيطرة علي الفضاء الاسفيري وعبره يمارسون الغزو الثقافي المكثف لتحقيق العولمة القافية، ويمتلكون اقوي واضخم طيران جوي متفوق عسكرياً.. وبحراً يسيطرون ببوارجهم علي معظم المضايق والممرات والسواحل المائية عبر البحار والمحيطات، وبراً يمتلكون أكبر وأحدث منظومة صواريخ عابرة للقارات … وهكذا فإنهم يحرصون وباستمرار الحفاظ علي التفوق براً وبحراً وجواً ، عبر احتكار التكنولوجيا، ونشر الجواسيس لمعرفة ما يخفيه الآخرون عنهم.
وفي خضم هذا الواقع المأزوم يزداد الأمر تعقيداً لمّا تري وتعترك مع طوائفَ ونحلٍ داخليةٍ، دينيةً كانت أو سياسيةً بتفاعل داخلي أو بتغذية خارجية، ومثل هذا النوع من السلوك لا يمكن تجنبه لانه فطريٌ جُبِلَ الإنسان عليه لحكمة يعلمها الله *(ولا يزالون مختلفين الا من رحم الله، ولذلك خلقهم)*
وللملمة هذا الشتات المبعثر يجب ان تُرتََسمْ معادلةٌ تحفظ الأمن الاجتماعي والتنافس الشريف والاصطفاف الوطني تتضمّن سن قوانين يتم عبرها اتفاق المجموع علي المشتركات والحد الادني ، وتعميم ثقافة الحوار الكثيف والصبور لتربية الجيل علي احترام الرأي والرأي الآخر.
يجب صناعة مصدات فعالة لكفكفة وتلافي الهجمات الضاغطة من الخارج، عن طريق التأهيل النفسي وبتعهدٍ مستمرٍ علي قوة التحمل والصبر علي شدة اذي الهجمات والصدمات.
والاتصاف بسعة الفقه المُغذَّي بمعرفة وافرة من الوقائع والمعلومات.
وسرعة الافاقة والتدافع مع التقلبات بما يناسب الحال ويقلل المضار يتطلب هو الآخر إعادة هيكلة فكرية ومؤسساتية موازية لتشكيلات الخصم وتدابيره بصورة متجددة {القصد.. القصد.. تبلغوا} .