29.5 C
Khartoum
الخميس, سبتمبر 18, 2025

القضارف… الجذر المغيَّب في جسد الدولة المنهك ✍️: خليفة جعفر علي

إقرأ ايضا

في خضم المشهد الوطني المضطرب، حيث تتلاطم أمواج المصالح، وتغيب البوصلة الوطنية، تقف القضارف كعنوان صارخ للإقصاء، وكأنّما فُصلت قسرًا عن سياق الوطن. ولايةٌ ذات وزن تاريخي وثقل اقتصادي وموقع استراتيجي، لكنها تُختزل للأسف في مجرد مورد يُستنزف، لا شريك يُحتَرم.

القضارف ليست هامشًا يُدار بالتوجيهات المركزية، ولا ساحةً تُستدعى عند الحاجة ثم تُهمّش عند اقتسام السلطة. إنها ولايةٌ بحجم وطن، تُقدِّم ولا تُكافأ، تُستغل ولا تُستشار، تُستنزف مواردها وتُقصى كوادرها من مواقع التأثير.

لقد بات التآكل القيادي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي واقعًا ماثلًا، يُغذّيه خلافٌ عقيم لا يُنتج فكرة، ولا يُقدّم مشروعًا. خلافٌ لا يُمارَس من أجل الوطن، بل ضدّه؛ لا يحمل رؤية، بل يُدار بعقلية تصفية الحسابات، حتى أضحينا مجتمَعًا يتقن التنظير ويفشل في الاصطفاف.

وإنَّ التعيينات السيادية والوزارية خيرُ شاهد على حجم هذا التهميش؛ إذ لا وجود للقضارف في معادلة الحكم، وكأنّها بلا أهل ولا حق. تُدار الدولة بعقلية الغنيمة، ويُقسَّم الوطن بالمحاصصة الضيقة، ويُترك الإنسان المُنتج الشريف في قارعة الطريق. فهل يُعقَل أن تتحوّل مناصب الدولة إلى جوائز ترضية؟ وهل يُعقل أن تُقاس المواطنة بالمحسوبية؟

لقد تفاءلنا كما تفاءل الكثير من أبناء هذا الوطن بتكليف البروفيسور كامل إدريس برئاسة مجلس الوزراء، وهو ابن السودان النزيه والعالم المستقل، صاحب الرؤية العميقة والبرنامج المتكامل الذي أعدّه قبل أكثر من خمسة عشر عامًا لإصلاح الدولة. إلا أنّ يد المحاصصة امتدت إليه، ففرضت عليه تشكيلة حكومية بائسة تُدار بعقلية القسمة، لا بمعيار الكفاءة. هكذا تبدّدت فرحة الشعب، وضاع الأمل في لحظة كان يُفترض أن تكون بوابة عبور حقيقية.

ولأنّ مركزية القرار لا ترى في القضارف سوى مستودعٍ للمكوس، فقد ظلّت قضاياها الكبرى وعلى رأسها أزمة مياه الشرب حبيسة الأدراج. ملفٌّ لا يتحرّك، وحقٌّ لا يُنجز، وكأنّ الحياة الكريمة مطلبٌ ترفيٌّ لأبناء هذه الولاية!

وإنّ من أكثر مظاهر العجز المجتمعي خطورة، أن يُترك والي القضارف، ابنها سعادة الفريق ودالشواك، الذي بعد أن كلف كون رؤية واضحة لمشروع نهضوي، وحيدًا دون سندٍ شعبي أو حاضنة تُعينه. طالبنا مرارًا بأن يتولّى أحد أبناء القضارف زمام الحكم، وعندما تحقق المطلب، خذلناه في اللحظة الحاسمة. ومع ذلك، أبى إلا أن يعمل، فاستنهض الولاية خلال تسعة أشهر فقط، فشُيّدت الكثير من الكباري، وتأهّلت المستشفيات الريفية ، وتوسّعت شبكة الطرق، وتحرّكت التنمية رغم العزلة السياسية وقلة الموارد.

هذا الوالي لم يُسنده سوى إيمانه بواجبه، بينما امتلأ الفراغ المجتمعي بأصوات الانتهازيين، والمطبلاتية، وأصحاب المصالح الذاتية الذين لا يرون في القضارف وطنًا بل مصلحةً آنية.

ومع كل هذا، فإن القضارف لم تتخلّف عن واجبها الوطني، بل كانت في مقدمة الصفوف عند نداء الكرامة. ساهمت ماليًا عبر حكومتها ومواطنيها، وسيرت القوافل دعمًا للقوات المسلحة، وابتعثت أبناءها منذ اللحظة الأولى للقتال ضمن إعلان الاستنفار، إيمانًا منها بعقيدة القوات المسلحة السودانية ودورها المقدس في حماية البلاد. وهنا لا بد من تثمين جهود الفرقة الثانية مشاة، التي لا تزال تتقدّم مواقع الشرف بثبات وشرف.

أمام هذا الواقع، نحن مطالبون بإعادة النظر في ذواتنا، في خطاباتنا، في تشرذمنا، وفي صمتنا المُخجل. يجب أن نفيق من سبات التنظير ونرتقي إلى مستوى الفعل. آن أوان أن نُشكّل برلمانًا أهليًا موحّدًا، يتحدّث باسم القضارف، ويعبّر عن إرادتها، ويضع قضاياها على طاولة الدولة لا في هوامشها.

القضارف ليست تابعة، بل شريكة. ليست عبئًا، بل ركيزة. وإن لم نُحسن الاصطفاف خلف مشروعٍ موحّد، فسنظل نراوح في مكاننا، ويظل غيرنا يتحدّث باسمنا، ويتقاسم ثرواتنا.

آن للقضارف أن تستعيد موقعها، وأن تتصدّر المشهد بما تملكه من وعيٍ وكفاءات وعزيمة. فالتاريخ لا يرحم المتقاعسين، ولا يُنصف المتفرجين

مقالات تهمك أيضا

الأكثر قراءة