.الرد على الصحفي الهندي عز الدين
السيد الصحفي المحترم/ عز الدين
تحية طيبة.. وبعد،
قرأت مقالكم المنشور حول تشكيل اللجنة العليا لتهيئة الخرطوم، وأثمن حرصكم على النقاش الدستوري البناء. مع احترامي لوجهة نظركم، أود تقديم قراءة مختلفة تستند إلى سياق الاستثناء وأولويات المرحلة، والتي تجعل قرار مجلس السيادة ضرورةً وطنيةً لا خيارًا سياسيًا.
وفي ظل تحديات غير المسبوقة التي يواجهها السودان بعد الحرب، يأتي قرار رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان بتشكيل “لجنة قومية عليا لتهيئة ولاية الخرطوم” برئاسة الفريق إبراهيم جابر كخطوة عملية لمعالجة أوضاع إنسانية طارئة. بينما يثار جدل حول مدى توافق هذا القرار مع الوثيقة الدستورية، فإن تحليلاً متعمقاً للسياق والغايات يكشف أن هذه الآلية تُعد استجابة ضرورية لتوحيد الجهود في مواجهة كارثة إنسانية، وليست تقويضاً للحكم المدني.
. السياق الاستثنائي: حرب تفرض آليات استثنائية :-
تشهد الخرطوم دماراً غير مسبوق في البنية التحتية بعد المعارك التي شهدتها، حيث تعرضت 70% من منشآتها الصحية والتعليمية والطاقوية للتدمير، وفق تقديرات الأمم المتحدة. هذا الدخل أوجد حالة طوارئ تتطلب تدخلاً سريعاً ومنسقاً يفوق الإمكانيات الروتينية للحكومة. اللجنة العليا – كما يُفهم من قرار تشكيلها – هيكل تنسيقي مؤقت لمعالجة أولويات محددة:-
.تسريع عودة النازحين (عددهم يتجاوز 8 ملايين)
.إعادة الخدمات الأساسية في وقت قياسي
.تنسيق جهود الإغاثة الدولية المعقدة
. التوافق
الدستوري: مرونة النص لتحقيق المقاصد :-
الوثيقة الدستورية – رغم تأكيدها فصل السلطات – تتضمن آليات للتعامل مع الظروف الطارئة:
.المادة (48) تخول مجلس السيادة اتخاذ إجراءات لحماية الأمن القومي عند تعطل المؤسسات.
.التقارير القانونية تشير إلى أن المجلس التشريعي الانتقالي (المعطل حالياً) هو الجهة الوحيدة المخولة تعديل الوثيقة، مما يعطي صلاحية مؤقتة لمجلسي السيادة والوزراء لإدارة المستجدات .
.خبراء دستوريون كالدكتور سامي عبدالحليم يؤكدون أن “المراسيم في أوضاع الحرب تكون مرنة وقابلة للتعديل” .
. التكامل المؤسسي: اللجنة أداة دعم لا منافسة :-
الانتقاد المركزي يتمحور حول خلق “حكومة موازية”، لكن تحليل مهام اللجنة يظهر أنها آلية تنسيق وليست بديلاً عن مجلس الوزراء:
.تضم في عضويتها وزراء الصحة والطاقة والتعليم، مما يضمن تبعية قراراتها للحكومة .
.تقارير الأمم المتحدة تشير إلى تعقيد توزيع المساعدات في الخرطوم بسبب تعدد الجهات الدولية، مما يستدعي هيئة تنسيقية موحدة .
.تجارب دولية (كرواندا بعد 1994، العراق بعد 2003) أنشأت هيئات مماثلة لإدارة إعادة الإعمار في مراحل الانتقال.
. المرجعية الاستراتيجية:- قرارات سيادية في إطار المصلحة العليا :
رئاسة الفريق إبراهيم جابر للجنة تستند إلى معطيات عملية:-
.خبرته السابقة في تنسيق العمليات الإنسانية مع منظمات دولية أثناء أزمة دارفور.
.حاجة المشروع لتمثيل قيادي يملك صلاحية اتخاذ قرارات سريعة في مجال الأمن والخدمات.
.تقارير “مجموعة الأزمات الدولية” تؤكد أن مشاريع إعادة الإعمار في مناطق الصراع تنهار دون دعم مباشر من القيادات الأمنية .
. الضمانات الدستورية: آليات لضمان التوازن :-
ضماناً لعدم تجاوز الصلاحيات، اتخذت إجراءات عملية:
.تقديم تقارير أسبوعية لمجلسي السيادة والوزراء.
.ارتباط تمويل اللجنة بموافقة وزارة المالية.
.تحديد زمني واضح لعمل اللجنة (6 أشهر قابلة للتمديد بموافقة مجلس الوزراء).
. أولوية إنقاذ الإنسان السوداني فوق الاعتبارات الشكلية :-
في لحظات التاريخ الفاصلة، تُقاس شرعية القرارات بقدرتها على إنقاذ الأرواح وإعادة الأمل. تشكيل اللجنة العليا لتهيئة الخرطوم هو إجراء يتوافق مع جوهر الدستور لا شكلياته، إذ أن الوثيقة الدستورية وضعت “حماية حقوق المواطن” كأسمى مبدأ (المادة 3). ما يشهده السودان اليوم ليس ظرفاً عادياً، بل كارثة إنسانية تحتاج آليات غير تقليدية. توحيد الجهود تحت مظلة وطنية واحدة هو الطريق الأمثل لعبور هذه المرحلة، تمهيداً لتسليم كامل الصلاحيات لحكومة مدنية دائمة قادرة على بناء سودان المستقبل.