الفراغ العريض والجبال المتراصة والأشجار الكبيرة والوديان والرهود الجارية ، كان يمكن أن تكون بيئة ساحرة لإنتاج أروع الأفلام السينمائية السودانية ، بل كان يمكن أن تكون محفزا للعيش بسلام لكل القاطنين فيها أو جوارها لتوفر عناصر الرومانسية الثلاث ( الماء والخضرة والوجه الحسن ) ، ولكن دخول البندقية في ولايات دارفور الخمس منذ العام 2003م وعدم تعامل الحكومة مع بداية الإنفلاتات المسماة حينها بـ( النهب المسلح) بالحسم السريع عبر معالجة ما ينادي به زعماء الحركات في اقتسام السلطة والثروة والوظائف القيادية مدنية كانت ام عسكرية ،جعلها سرطانا تنامى وكبر وأصبح حركات مسلحة وقطاع طرق ودول داخل الدولة ، لأن البلاد حينها كانت تحارب التمرد الأكبر في جنوب السودان الذي إنفصل الآن وكم إستنزف من مواردنا وأولادنا وجهدنا دون فائدة ، ومن ثم أصبح حاضنة للحركات المتمردة على الدوام ، والدولة كان لديها الحل آنذاك ولكنها تشاغلت عنه وهو توجيه الحركة المسرحية الى الولايات والمحليات والقرى والفرقان الملتهبة حينئذ بإستيعاب شبابها بدمائهم الحارة في دورات مبسطة في علم الدراما وإنشاء المسارح الثابتة والمؤقتة في كل مكان لتفريغ شحنة الشباب الزائدة عبر أعمال درامية خفيفة كانت كافية لسبر أغوارهم المتلهفة الى حمل السلاح والعبث به ، وما أدراك عاقبة اللعب بالسلاح ، وبالمقابل عدم انفراد حزب واحد بالسلطة المطلقة ۔
ودون الخوض في ماحدث في المشهد الدارفوري آنفا ولكن دخول الدعم السريع كمشعل لفتيل الحرب في البلاد في ابريل 2023 م قلب الموازين في دارفور ، بل وفي كل السودان ولكنه يبقى جزءا من المحصلة المتوقعة لدى جميع العقلاء من أهل السودان ، إذ أن نائب رئيس الجمهورية الاسبق – والمتمرد الآن – حسبو محمد عبدالرحمن قد اخفق في مشروع جمع السلاح عن قصد ، ولعله كان يعلم إن الأمور لن تسير على وتيرة واحدة ، وكانت الخسارة الآنية لرجال أعزاء إلا أن أمن البلاد لابد أن يفدى بالدم وهذا قدر القوات المسلحة التي لم تغير عقيدتها القتالية على مر الزمان ، منذ (انانيا ون) و (انانيا تو) ومن ثم الحركات الدارفورية وختاما بمليشيا الدعم السريع ۔
فقد ظلت القوات المسلحة تنفذ اوامر القيادة السياسية بحسب الظرف ولكنها لاتفرط في أمن البلاد ، فكانت توقف اطلاق النار اذا جنح فصيل متمرد ما ، وعاد الى منصة السلام وهكذا دواليك منذ العام 1955م ۔
ومن قبل قلت أن تقيم وزارة الثقافة والاعلام مهرجاناً للمسرح في ظل الظروف السياسية والاقتصادية الحرجة التي تمر بها بلادنا، فهذا سيحسب لها رغم علمها بأن المسرح كفن إنساني قد تناسته الحكومات المتعاقبة ، وكل المسرحيات التي علقت بأذهان جمهور المسرح منذ ستينيات القرن الماضي أنتجها الفنانون على حسابهم الخاص ونصيب الحكومة ( إنتاجاً ) منها مخجل جداً برغم المقولة المعروفة (أعطني مسرحاً أعطك أمة).
ولغياب المسرح عن النشاط الإبداعي السوداني منذ مجيء البشير لسدة الحكم ومن بعده ( المؤسس ) حمدوك – كما يسميه ناشئة ثورة ديسمبر في التظاهرات التي أطاحت بسلفه البشير – و( لا ندري ماذا أسس؟! ) وفي ظل المتغيرات المتسارعة في عالم الاتصالات والأقمار الاصطناعية التي تبث كل حصاد المعمورة من الفنون ، ودون أن تكلِّف الإنقاذ او قحت نفسيهما في استخدام الفن المسرحي في طرح قواعد التعايش السلمي وتوجيه أفكار الشباب الحائر بين الاستلاب الخارجي ومعطيات الداخل المخجلة مسرحياً وسينمائياً و(مسلسلاتياً) أيضاً- إن جازت الكلمة – فإنه عبأ ذاكرته بقوة (رامبو) وعضلات (جون سينا) وضربات (الرجل الوطواط) البهلوانية. فكان ولا زال شبابنا غنيمة سهلة المنال لكل شذاذ الآفاق من الجنجويد الذين اتخذوا من الغابات والسهول والجبال معسكرات لهم، وكونوا فيها ارتكازات للنهب والسلب قوامها شباب السودان الذين لم يجدوا مسرحاً حقيقياً ليخرجوا بعد عروضه المتوالية رجالاً عاملين لنهضة السودان ، فخسرت الدولة أموالاً طائلة في محاربة التمرد الذي ما فتأ ينقسم كالهايدرا كل صباح متمخضاً عن هجوم جديد نحو قرية كانت آمنة مطمئنة ، وخسر أيضاً العشرات من جنودنا البواسل أرواحهم رخيصة في حرب كان يمكن تداركها بتوجيه عيدان حطب نيرانها من الشباب الساذج الذي مضى مغمض العينين خلف ما علق بذهنه من دراما غربية بنيت على القتل، فدخلوا أوكار الحركات من ثم مليشيا الدعم السريع وغيرها حتى دون كشف طبي من أجل تطبيق مشهد في فيلم شاهدوه ليس إلا ، فليست لهم مطالب معلومة وهم ليسوا بأحسن من أهل السودان في شئ وجميعنا في الفقر والعوز سواء .
فمازالت الفرصة أمام الحكومة أن تمضي في تطبيق ما أشرنا إليه بحنكة وحكمة بعد حسم التمرد المشؤوم ۔ ويكفي أن الفنان المسرحي السوري أسعد فضة قلت له قبل إندلاع الحرب الطائفية في سوريا التي دمرتها تماما الآن ، وهو يحل ضيفا علينا في إحتفالية الخرطوم عاصمة الثقافة العربية 2005م ، قلت له لماذا السودان ظل متأخرا في الدراما رغم عراقته فيها ؟ ، فقال لي ( نحن في سوريا كنا أبعد الناس عنها ولكن الحكومة تبنت مشروع المسارح الشعبية في كل ضيعة وقرية بالبلاد وبعدها أقام الأهالي المسارح بالجهد الشعبي ونال أولادنا الكورسات القصيرة وقدموا أعمالهم لآهاليهم وأقيمت المنافسات فعم السلام الإجتماعي ، وعليكم تبني الفكرة ) ورغم الحرب المستعرة في سوريا هذه الايام الا ان الدراما لم تتوقف ، لماذا ؟ لأن حرب سوريا طائفية وأخشى ان نصاب بالعدوى فكل اعراض هذا الداء اكتملت اركانها في بلادنا ، فالنحكم صوت العقل ۔
سفر القوافي محمد عبدالله يعقوب أسعد فضة والبندقية وجنون شبابنا الطائش !!
