32.7 C
Khartoum
الجمعة, يوليو 4, 2025

تحديات ولاية المحكمة الجنائية الدولية في النزاع المسلح السوداني الراهن

إقرأ ايضا

د.رجاء عبدالله الزبير الملك

مع تصاعد النزاع المسلح في السودان منذ ابريل 2023،وتعقًد الأوضاع القانونية والإنسانية، ولاسيما في اقليم دارفور ، تبرز الحاجة الماسة الى تفعيل الآليات القانونية الدولية للتحقيق في الجرائم المرتكبة،وتحقيق العدالة الجنائية،وفي هذا الإطار، تمثل المحكمة الجنائية الدولية أداة رئيسية رغم أن السودان لم يصادق بعد على نظام روما الأساسي،مما يُثير تساؤلات مشروعة حول مدى اختصاصها بالنظر في النزاع السوداني الراهن.
ومن الجدير الإشارة إلى القرار الصادر من مجلس الامن بالرقم 1593/ 2005 ، بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة،إستناداً إلى توصية لجنة التحقيق الدولية التي شكلها الامين العام للامم المتحدة بشأن الوضع في دارفور ، وقد منح القرار المحكمة الجنائية الدولية ولاية النظر في الجرائم المرتكبة في دارفور ،منذ الاول من يوليو 2002 ،بإعتبارها جرائم دولية ،وبموجب هذا القرار تلتزم حكومة السودان وجميع أطراف النزاع بالتعاون الكامل مع المحكمة والمدعي العام ،ويتضمن هذا التعاون تسهيل التحقيقات،والسماح بدخول الفرق الفنية،وتقديم الدعم اللوجستي والتقني ،وفق ترتيبات خاصة(ad hoc arrangements) .
يُعد هذا القرار سابقة قانونية مهمة،كونه أول قرار يُستخدم فيه مجلس الامن صلاحياته بموجب المادة (13/ب) من نظام روما الأساسي لإحالة وضع إلى المحكمة ،علىى الرغم من عدم عضوية السودان في نظام روما الأساسي،وقد اكدت المادة( 25 ) من ميثاق الامم المتحدة ،إلتزام جميع الدول الأعضاء في الامم المتحدة بتنفيذ قرارات مجلس الامن الصادرة بموجب الفصل السابع.
إستناداً إلى هذا القرار تظل ولاية المحكمة الجنائية الدولية سارية لتشمل الجرائم الحديثة في سياق النزاع المسلح الجاري منذ أبريل 2023،شريطة أن تندرج ضمن الجرائم الدولية الثلاث:جرائم الحرب،الجرائم ضد الإنسانية،وجريمة الإبادة الجماعية.
وقد شدد المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية ،في إحاطته أمام مجلس الأمن، على ضرورة تعاون جميع الاطراف في السودان بما في ذلك الحكومة السودانية والجماعات المسلحة مع المحكمة،بما لا يتعارض مع السيادة الوطنية،كما عبر عن أستعداد المحكمة لتقديم الدعم الفني والتدريب ،في إطار مبادرة التكامل المعزز (Enhanced Complementarity) مع الانظمة القضائية الوطنية.
وفي خطوة إيجابية تعكس توفر إرادة سياسية لتنفيذ الإلتزامات الدولية، أصدرت الحكومة السودانية ممثلة في مجلس السيادة في أكتوبر 2023،قراراً بتعيين جهة تنسيقية رسمية للتعاون مع المحكمة ،في مؤشر مهم على سعي السودان لتفعيل قنوات التعاون القضائي الدولي،كما وقع السودان مذكرة تفاهم مع مكتب المدعي العام في أغسطس 2021،بشأن ملاحقة الافراد المطلوبين،إستناداً إلى المادة (87/5/ب) من نظام روما الأساسي،التي تتيح للمحكمة طلب التعاون القضائي من دولة غير طرف، بناءً على ترتيبات خاصة أو مذكرات تفاهم ،مما يُعد تطوراً قانونياً يعكس إمكانية التعاون العملي ،دون الحاجة إلى التصديق الكامل على نظام روما الأساسي ،وياتي ذلك إنسجاماً مع إتفاقية فيينا لقانون المعاهدات،التي تنص في مادتيها ( 34-35) على أنَ المعاهدات لا تُلزم الدول غير الأطراف إلا بموافقتها الصريحة.
وبالتالي فإن للمحكمة الجنائية الدولية ولاية مستمرة قائمة على قرار مجلس الأمن ،وتمتد هذه الولاية لتشمل الجرائم المرتكبة خلال النزاع المسلح الجاري في دارفور ، طالما أنها تقع ضمن نطاق الجرائم الدولية ،ومرتبطة بسياق النزاع في دارفور ،ويظل السودان ملزماً قانوناً بالتعاون الكامل حتى دون المصادقة على نظام روما ،نظراً لان الإحالة صدرت من مجلس الأمن إستنادا إلى سلطاته بموجب الفصل السابع.
رغم ذلك ،فإن بعض الإنتقادات توجه للمحكمة تتعلق بتسييس العدالة وإنتقائية ملاحقتها ،مما يثير التردد والتوجس من بعض الدول ،ومنها السودان ،في التعاون الكامل، إلا أن المادة (99) من نظام روما الأساسي وفرت ضمانات للدول المتعاونة مع المحكمة مع احتفاظها بسيادتها وأمنها الداخلي ،حيث الزمت المدعي العام (chief prosecutor) التشاور مع الدولة المعنية قبل تنفيذ أي إجراء على أراضيها.
وفي هذا السياق يجوز للسودان وضع ضوابط تكفل حماية سيادته ومصالحه الامنية ،مثل إشتراط الحصول على أذن مسبق من السلطات المختصة الوطنية قبل إجراء التحقيقات الميدانية ،أو جمع الادلة، أو استجواب الشهود ،لضمان تنسيق التحقيقات مع النظام القضائي الوطني ،وأن تُجرى تنفيذ الإجراءات القسرية حصراً عبر السلطات السودانية المختصة
وانطلاقاً من مبدأ الولاية التكميلية للمحكمة (complementary jurisdiction) الذي نص عليه نظام روما، وإلى الإحالة القانونية من مجلس الأمن ،فإن إبرام إتفاق رسمي لتعاون السودان مع مكتب المدعي العام ،يمثل الخيار الأمثل لتعزيز العدالة في دارفور مع ضرورة أن يتضمن هذا الاتفاق ،إنشاء مكتب ميداني للمحكمة الجنائية الدولية بالسودان ، لتنسيق التحقيقات ،وتوفير بيئة آمنة للفريق الفني على الارض ،وتبادل الخبرات القضائية والتقنية بين المحكمة والجهاز القضائي السوداني الوطني.
إن هذا النموذج من التعاون لا يدعم جهود العدالة فحسب ،بل يعزز أيضاً من سيادة السودان وأستقلال نظامه القضائي ،ويمنح الضحايا فرصة حقيقية للوصول إلى العدالة والإنصاف ،بالرغم من أن العدالة الدولية ليست طريقاً مستقيماً بل تتقاطع اعتبارات القانون والسياسة ،لكن من واجبنا أن نبحث دائماً عن المسارات الاكثر نجاعة نحو عدالة ممكنة وإن تأخرت.
3/يوليو/2025

مقالات تهمك أيضا

الأكثر قراءة