. شراكة إنسانية لحماية الإرث الحضاري:-
.في ظل التحديات الراهنة التي يواجهها السودان على مختلف الأصعدة، تتجلى الأهمية القصوى للتعاون الدولي في سبيل صون التراث الإنساني وتعزيز القدرات الوطنية لمواجهة الكوارث. يمثل اللقاء الأخير الذي جمع المدير العام لقوات الدفاع المدني السوداني الفريق حقوقي د. عثمان عطا مصطفى بالمدير الإقليمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) السيد أحمد جنيد سوروش ولي نقطة محورية في هذا المسار، حيث يمزج بين الخبرات المتراكمة في مجال الحماية المدنية والرؤية الثقافية العالمية الشاملة. إن هذا اللقاء يتجاوز كونه مجرد إجراء بروتوكولي، ليجسد رؤية متكاملة تدرك أن حماية التراث الثقافي تعد جزءًا لا يتجزأ من حماية الأرواح وصون المجتمعات. في هذا السياق، يسعى هذا المقال إلى استكشاف الأبعاد العميقة لهذه الشراكة الاستراتيجية، ودورها المحوري في تعزيز الأمن الثقافي للسودان، وكيف يمكن لهذا التعاون أن يرسي نموذجًا يحتذى به في المنطقة بأسرها. سنتناول بالتحليل الدقيق المبادرات المطروحة، والتحديات القائمة، والرؤى المستقبلية التي من شأنها أن تحدث فارقًا ملموسًا على أرض الواقع.
.تعزيز التعاون الدولي في إدارة الكوارث:-
شهد اللقاء بين الفريق شرطة د. عثمان عطا مصطفى والسيد أحمد جنيد سوروش ولي نقاشًا معمقًا حول السبل الكفيلة بتطوير آليات التعامل مع الكوارث الطبيعية والبشرية التي تهدد السودان. يأتي هذا في ظل تقارير متزايدة تشير إلى تصاعد وتيرة الكوارث في المنطقة، نتيجة لتغير المناخ والنزاعات المسلحة. تقدم اليونسكو، بصفتها منظمة أممية متخصصة في مجالات الثقافة والتربية والعلوم، رؤية شاملة تربط بين حماية التراث المادي وغير المادي وبناء القدرات المحلية في مجال إدارة الأزمات. تجدر الإشارة إلى أن السيد أحمد جنيد سوروش ولي قد أكد خلال اللقاء على الاستعداد التام للمنظمة لتقديم كافة أشكال الدعم الفني واللوجستي. هذا الدعم لا يقتصر على الجانب المادي فحسب، بل يمتد ليشمل نقل الخبرات الدولية وتوطين المعرفة من خلال برامج تدريبية متخصصة. يمكن لمثل هذه البرامج أن تسهم بفعالية في رفع كفاءة فرق الدفاع المدني السوداني في التعامل مع الحالات المعقدة، لا سيما تلك التي تتعلق بحماية المواقع الأثرية والمتاحف خلال الأزمات.
.حماية التراث الثقافي: أولوية وطنية وإنسانية:-
يمثل التراث الثقافي السوداني ذاكرة حية تعكس التنوع الحضاري الغني الذي تعاقب على هذه الأرض. إلا أن هذا التراث يواجه تحديات جمة، كما تجلى بوضوح في أعمال النهب والتدمير التي طالت متحف السودان القومي. في هذا الإطار، يبرز دور الدفاع المدني كشريك أساسي في صون هذا الإرث، ليس فقط من خلال التدخلات الطارئة، بل أيضًا عبر وضع خطط وقائية متكاملة. خلال الزيارة، تم تسليم أجهزة متخصصة من اليونسكو مخصصة لتوثيق التراث الثقافي المادي. ستمكن هذه الأجهزة الفرق المحلية من إنشاء قاعدة بيانات دقيقة للقطع الأثرية، وهو أمر بالغ الأهمية لمكافحة الاتجار غير المشروع بالآثار. كما أن الربط المقترح بين مواقع التراث ومركز الإنذار المبكر يمثل خطوة استباقية من شأنها أن تقلل بشكل كبير من الخسائر المحتملة أثناء الكوارث.
.مركز الإنذار المبكر: نموذج للتكامل المؤسسي:-
يُعد مركز الإنذار المبكر متعدد المخاطر، الذي افتتح مؤخرًا في بورتسودان، نقلة نوعية في منظومة إدارة الكوارث بالسودان. لا يعمل هذا المركز بمعزل عن المؤسسات الأخرى، بل يشكل حلقة وصل حيوية بين مختلف الجهات المعنية، بما في ذلك المؤسسات الثقافية والتعليمية. تقوم فلسفة العمل في هذه المراكز على مبدأ “الوقاية خير من العلاج”، حيث يتم رصد المؤشرات المبكرة للكوارث وتنسيق الاستجابات الفعالة قبل تفاقم الأزمات. يمكن للدفاع المدني السوداني، من خلال هذا المركز، الاستفادة من الشبكات الدولية لليونسكو في مجال الإنذار المبكر، والتي تربط بين الخبراء والمعدات في مختلف أنحاء العالم. تتيح مثل هذه الشراكات الوصول إلى البيانات الجيوفيزيائية والمناخية التي يمكن أن تنقذ أرواحًا وتحمي مواقع تراثية لا تقدر بثمن.
.التدريب وبناء القدرات: استثمار في المستقبل:-
يُعد التدريب وبناء القدرات أحد المحاور الرئيسية التي ناقشها الجانبان، ويستهدف العاملين في مجالي الدفاع المدني وحماية التراث. لا يقتصر التدريب في هذا المجال على الجانب التقني فحسب، بل يشمل أيضًا تعزيز الوعي المجتمعي بأهمية الحفاظ على التراث كجزء لا يتجزأ من الهوية الوطنية. تمتلك اليونسكو سجلًا حافلًا في تنفيذ برامج تدريبية متخصصة، لا سيما في المناطق التي تشهد نزاعات أو كوارث طبيعية. من النماذج التي يمكن الاستفادة منها تجربة اليونسكو في تدريب فرق الدفاع المدني على تقنيات التثبيت الطارئ للمباني التاريخية، واستخدام المواد المناسبة التي تحافظ على القيمة الأثرية للموقع أثناء عمليات الإنقاذ. يمكن لمثل هذه المهارات المتخصصة أن تحدث فارقًا كبيرًا عند وقوع كوارث طبيعية مثل الزلازل أو الفيضانات التي تهدد المواقع التراثية.
.التحديات والرؤى المستقبلية:-
على الرغم من الأهمية الاستراتيجية لهذا التعاون، إلا أن هناك تحديات لا يمكن إغفالها. من أبرز هذه التحديات محدودية الموارد المالية، وصعوبة الوصول إلى بعض المناطق النائية التي تزخر بمواقع أثرية بالغة الأهمية، بالإضافة إلى الحاجة المستمرة لتحديث التشريعات الوطنية لمواكبة التحديات الجديدة. تتطلب هذه التحديات مقاربة شاملة تعزز التنسيق بين جميع الجهات المعنية، وتستفيد من التجارب الدولية الناجحة. في المقابل، تفتح هذه الشراكة آفاقًا واسعة للتعاون المستقبلي، مثل إمكانية إنشاء فرق مشتركة للتدخل السريع، وتطوير تطبيقات ذكية تربط بين مراكز الدفاع المدني والمواقع التراثية، وإدراج مفاهيم حماية التراث ضمن المناهج التدريبية الأساسية للدفاع المدني. يمكن لكل هذه المبادرات أن تسهم في خلق نموذج متكامل يجمع بين الأمن الإنساني والأمن الثقافي.
.خاتمة: نحو شراكة مستدامة:-
يمثل اللقاء بين المدير العام للدفاع المدني السوداني ومدير مكتب اليونسكو أكثر من مجرد حدث عابر؛ فهو تأكيد على أن حماية التراث ومواجهة الكوارث مسؤولية مشتركة تتطلب تضافر الجهود المحلية والدولية. يمكن للشراكة بين هاتين المؤسستين أن تنتج نموذجًا فريدًا يجمع بين الخبرة الميدانية للدفاع المدني والرؤية الشاملة لليونسكو. في الختام، يتمثل الهدف الأسمى في حماية إرث السودان الحضاري الذي يشكل جزءًا لا يتجزأ من التراث الإنساني العالمي. لن يتحقق هذا إلا من خلال مقاربة تعاونية تضع الإنسان في صميم اهتماماتها، وتدرك أن حماية الممتلكات الثقافية يجب أن تسير جنبًا إلى جنب مع حماية الأرواح. لقد بدأت الخطوات الأولى، ولكن الطريق لا يزال طويلًا، ويتطلب استمرار هذا الزخم والتعاون لتحقيق نتائج ملموسة على أرض الواقع.
المصادر:-
1. البيان الرسمي للقاء: الموقع الرسمي للهيئة العامة للدفاع المدني السوداني – يوليو 2025
https://www.sd-civildefense.gov.sd/ar/news/567
2. تصريح مكتب اليونسكو بالسودان: تأكيد الدعم التقني في حماية التراث والحد من الكوارث – مايو 2025
https://news.un.org/ar/story/2025/05/1141686
3. تقرير اليونسكو العالمي 2024: “التراث المعرض للخطر” مع إحصائيات عن تهديدات النزاعات
https://whc.unesco.org/en/news/2456
4. دراسة البنك الدولي 2025: تحديث أنظمة الإنذار المبكر متعددة المخاطر في أفريقيا
https://www.worldbank.org/en/topic/disasterriskmanagement/publication/multi-hazard-early-warning-systems
5. تقرير منظمة الهجرة الدولية 2025: إحصائية النازحين وتأثيرهم على الخدمات في بورتسودان
https://arabic.news.cn/20250101/9b00e69dc12a4b64b952d7451cf4e529/c.html