34.2 C
Khartoum
الثلاثاء, سبتمبر 16, 2025

قلم وطني بقلم: خالد المصطفى

إقرأ ايضا

.الشيخ الصغيرون: حكيم السودان الذي أسس أكبر مركز علمي جنوب الصحراء:-
غلام الله بن عايد، ذلك الرجل الذي يُنسب إليه فضل إدخال الإسلام إلى ربوع السودان، قدم من قبيلة جهينة في الحجاز حوالي عام 870 هجرية الموافق 1465 ميلادياً، في فترة تاريخية حرجة شهدت بواكير تشكل الممالك الإسلامية في المنطقة. استقر وتزوج من قبيلة البدارية العريقة، فأنجب ذرية كان من بينها أبناء أصبحوا أجداداً لفرع عرف بـ “أولاد جابر”. هؤلاء الأبناء – إبراهيم وعبد الرحمن وإسماعيل وعبد الرحيم – حملوا مشعل العلم والدعوة بعد أبيهم. وإبراهيم، الملقب بالبولات، كان في طريقه إلى مملكة الفونج الناشئة في سنار، لكن قدرته القيادية وحنكته دفعته للاستقرار في منطقة استراتيجية، أسماها الناس “البواليد” نسبة إليه وإلى ذريته، وأصبحت مركزاً إشعاعياً، ولا تزال قبته وقبة أحد أبنائه شاهدتين متقابلتين على ذلك التاريخ العريق وسط السودان.

.الولادة والنشأة في ظل العلم:-
من رحم هذه الأسرة المتجذرة في العلم والتدين، ولد الصغيرون بن إبراهيم البولات. نشأ في كنف أمه فاطمة بنت جابر – امرأة اشتهرت بالصلاح والعقل الراجح – وتحت رعاية خاله العالم الجليل إسماعيل بن جابر، الذي أولاه عناية فائقة في تعليم القرآن الكريم وعلوم الشريعة واللغة منذ نعومة أظفاره. وظهر نبوغ الصغيرون مبكراً، فلم يكتف خاله بما يقدمه له من علم في المحلية، بل شجعه على طلب المزيد. فشد الصغيرون الرحال، وهو في ريعان الشباب، إلى القاهرة، إلى جامع الأزهر الشريف، أعظم جامعة إسلامية آنذاك. هناك، في أروقة الأزهر العتيقة، انغمس في بحور العلم، فدرس الفقه والحديث والتفسير واللغة العربية وآدابها على يد كبار شيوخ العصر، ونال إجازات علمية عالية، وبلغ درجة عظيمة من الصلاح والتقوى والزهد، حتى أصبح موضع إجلال وتقدير.

.العودة والتأسيس: شندي وكوزاليلي منارة العالم الإسلامي:-
بعد أن تشبع علماً وتزكية، عاد الشيخ الصغيرون إلى وطنه السودان حاملاً هموم أمته، ومصمماً على نقل شعلة العلم التي أخذها من الأزهر. رافقته أمه فاطمة في رحلة العودة والبحث عن مكان لزرع بذرته العلمية. استقر بهما المقام أولاً في شندي، المدينة التجارية الهامة على نهر النيل. لكن روح الشيخ الصغيرون التواقة للخلوة والعلم والبناء دفعه للبحث عن موقع أكثر هدوءاً وأبعد عن صخب المدينة. انطلق يبحث في الغابات المحيطة حتى وجد بقعة أرض خالية من الأشجار أطلق عليها اسم “الفجايجة”، وتنبأ بأنها ستكون موطناً لذريّة زملائه في الدراسة يوماً ما. ثم تقدم قليلاً ليجد موقعاً آخر أكثر ملاءمة، أسس فيه خلوته ومدرسته التي عرفت بـ “كوزاليلي” أو “كوزاليمي”.

.كوزاليلي: إشعاع يتجاوز الحدود:-
لم تكن كوزاليلي مجرد خلوة عادية لتحفيظ القرآن. لقد تحولت، بفضل علم الشيخ الصغيرون الواسع وسمعته الطيبة التي سبقته من الأزهر، ومنهجه التربوي الفريد، إلى جامعة إسلامية كبرى. نعم، أصبحت كوزاليلي في زمن قياسي أكبر مركز علمي في العالم الإسلامي جنوب الصحراء الكبرى، وأشبه بفرع للأزهر في قلب أفريقيا. ما يميزها بشكل لافت هو اعترافها الرسمي بختمة الأزهر الشريف. كان الطلاب القادمون من الأزهر يحملون معهم “ختماتهم” (شهادات إجازتهم). وكان الشيخ الصغيرون، بسلطته العلمية المعترف بها، يمنحهم الإجازة للتدريس في كوزاليلي بمجرد رؤية ختم الأزهر على وثائقهم، دون حاجة لإجراء امتحانات إضافية، دليلاً على الثقة المتبادلة ومكانة الأزهر ومكانته هو نفسه. توافد الطلاب على كوزاليلي من كل حدب وصوب: من دارفور وكردفان ومناطق النيل الأزرق ومن بلاد الهوسا والفولاني غرباً، وحتى من مناطق أبعد جنوباً وشرقاً. لقد استقطبت هذه الجامعة الفريدة آلاف الطلاب الباحثين عن العلم الشرعي والتصوف السني السليم الذي كان الشيخ الصغيرون حريصاً على نشره، منهجاً وسلوكاً. وأصبح خريجوها سفراء للعلم والأخلاق في ربوع أفريقيا.

.فاطمة بنت جابر: رائدة تعليم المرأة في أفريقيا:-
وفي إطار هذا الصرح العلمي العملاق، برز دور لا يقل عظمة وأهمية، دور الأم العالمة فاطمة بنت جابر، والدة الشيخ الصغيرون. لم تكن مجرد أم داعمة، بل كانت عالمة في حد ذاتها، صاحبة رؤية تنويرية سبقت عصرها بقرون. أدركت فاطمة أن تعليم المرأة هو أساس بناء المجتمع. فلم تكتف بدورها خلف ابنها، بل أسست داخل مجمع كوزاليلي العلمي مؤسسة موازية ومتكاملة: خلوة متكاملة مخصصة حصرياً لتعليم النساء والفتيات. لم تكن هذه الخلوة مكاناً للتعليم فقط، بل كانت مجتمعاً تربوياً متكاملاً. استقبلت في أوج ازدهارها حوالي ألف امرأة وفتاة. كن يتعلمن القرآن الكريم حفظاً وتجويداً، ويتلقين علوم الدين الأساسية، والفقه الذي يخص النساء، بالإضافة إلى المهارات الحياتية. والأهم من ذلك، أن الخلوة كانت توفر لهن المأكل والملبس والمأوى اللائق، ضماناً لاستمراريتهن في التعليم دون معاناة. وكانت فاطمة نفسها تشرف على شؤونهن التعليمية والمعيشية. ولم يقف دور هذه المؤسسة الرائدة عند تخريج نساء متعلمات؛ بل كانت ترسل خريجاتها المتميزات، الحاصلات على الإجازة، إلى الممالك والإمارات المجاورة في السودان وما حوله ليقمن بدورهن في تعليم النساء ونشر العلم، فكنَّ بمثابة أولى المعلمات المنظمات في تاريخ التعليم النسوي المعروف في المنطقة. هذا الإنجاز الضخم – تعليم وإيواء ألف امرأة في مطلع القرن السادس عشر الميلادي – يضع فاطمة بنت جابر في مكانة رائدة على مستوى العالم الإسلامي بل والعالمي في مجال تعليم المرأة.

.الإرث الخالد والذكرى الباقية:-
ازدهرت كوزاليلي وأصبحت قطباً علمياً وروحياً لا ينكر في الفترة الممتدة حول عام 1520 ميلادية وما بعدها. لقد مثَّل الشيخ الصغيرون وأمه فاطمة نموذجاً فريداً للعلم العامل، والجمع بين العلم الشرعي العميق والتصوف السني المتزن، والالتزام بخدمة المجتمع بكل فئاته. لقد استمر تأثير كوزاليلي لقرون، رغم أن مركزها المادي قد تضاءل نسبياً مع تغير الظروف السياسية والاقتصادية في المنطقة بحلول القرن الثامن عشر الميلادي، إلا أن إشعاعها الروحي والعلمي بقي في قلوب الناس وفي سير الذاكرة الشعبية والعلمية. إن قصة الشيخ الصغيرون وأسرته، بدءاً من الجد المؤسس غلام الله بن عايد، مروراً بإبراهيم البولات ووصولاً إلى هذا العالم الرباني وأمه المربية الفذة، هي قصة تأسيس ليس فقط لمركز جغرافي، بل لتاريخ ثقافي وديني عميق الجذور في السودان وامتداداته الأفريقية. إنها قصة تشهد على أن الإرادة الفردية المبنية على العلم الصحيح والإخلاص، مدعومة برؤية تنويرية شاملة (شملت الرجل والمرأة على حد سواء)، يمكنها أن تخلق من الغابة موطناً لأعظم الجامعات، وأن تجعل من بقعة نائية في قلب أفريقيا منارة للعلم والإيمان تشع على العالم أجمع. ولا تزال أضرحتهم وأسماؤهم تتردد على ألسنة أهل السودان، شهادة على دورهم التأسيسي في تشكيل الهوية الإسلامية والعلمية للبلاد.

الخاتمة:-
إن إرث الشيخ الصغيرون وأمه العالمة فاطمة بنت جابر ليس مجرد صفحات في تاريخ السودان، بل هو شعلة متقدة تواصل إنارة الدروب حتى اليوم. فحين نتأمل كيف استطاع رجل وامرأة في قلب غابة نائية أن يضعا أسس أعظم صرح علمي جنوب الصحراء، ندرك أن الإيمان بالعلم والرسالة قادر على تغيير مصير أمة بأكملها. قصة الصغيرون وكوزاليلي ليست مجرد حكاية من الماضي؛ إنها دعوة للمستقبل، بأن السودان بما يملكه من جذور حضارية وروحية قادر على أن يعود منارة للعلم والمعرفة في أفريقيا والعالم الإسلامي. إنهم غابوا بأجسادهم، لكن أسماءهم وأفكارهم لم تزل تصنع الحاضر وتلهم الغد. ومن يقف اليوم أمام قبابهم الشامخة في وسط السودان، يدرك أن هذه الأرض حبلى بالعبقرية، وأن الحكاية لم تنته بعد، بل تنتظر جيلاً جديداً يحمل المشعل ويكتب الفصل القادم من ملحمة العلم والإيمان.
. كتب هذا المقال بناءا” على رغبة الاخ الزين ابراهيم ود صغيرون الجريف غرب الحارة الثالثة.

مقالات تهمك أيضا

الأكثر قراءة