أُتيح لي هذا الأسبوع في نيروبي أن أعايش جلسات الحوار والنقاشات التفاعلية التي جمعت وفود دول حوض النيل الشرقي وخبراء الإعلام والمياه والنوع الاجتماعي. كانت هذه التجربة لحظة سياسية و إعلامية اكتشفت من خلالها تحول في الخطاب التنموي والإقليمي، نحو إدراك أوسع بأهمية تجاوز الأدوات الصلبة إلى مقاربات ناعمة قائمة على بناء الثقة و الدبلوماسية، وتحويل الصراعات إلى فرص تعاون.
في ما يبدو أن حوض النيل الشرقي، الذي يضم السودان ومصر وإثيوبيا وجنوب السودان، بات يقترب أكثر من أي وقت مضى من لحظة مراجعة شاملة لأساليب التعاون وآلياته. التحديات و التداخلات المتعلقة بالأدوار والتأثير، سواء في إدارة الموارد المائية أو في السياقات السياسية المتوترة، واضح أنها لم تعد تسمح برفاهية الجمود أو الانتظار.
وهناك شعور متنام ظل في أروقة الورشة بأن النهر لم يعد فقط مورداً طبيعياً مشتركاً، بل بات ساحة لاختبار أشكال جديدة من التفاهم السياسي والثقافي. التوجه الذي طغى على الورشة بجانب العمل المهني ، حمل أيضاً في مضمونه رسالة سياسية غير معلنة: نحن بحاجة إلى إعادة تعريف مفهوم الشراكة في الحوض، لا على أساس تبادل المنافع فحسب، بل على أساس الاعتراف المتبادل، والتكامل، وتوزيع الأدوار بما يعكس الواقع والطلعات.
واحدة من أبرز مفاتيح هذا التحول تمثلت في إدماج الإعلام التنموي والنوع الاجتماعي ضمن مقاربة إدارة المياه، حيث تم تجاوز النظرة الكلاسيكية للموارد إلى فهم أكثر شمولاً، يرى في الإعلام أداة توجيه للخطاب العام، وفي النوع الاجتماعي مدخلاً لإشراك جميع الفئات .
لم يعد الإعلام يُفهم بوصفه ناقلاً للخبر، بل بات يُعامل كفاعل سياسي وتنموي قادر على التأثير في الرأي العام، وتوجيه النقاش من الصراع إلى الحوار، ومن التسييس إلى التشاركية. وهو ما تجسد في الورشة التي قدمها الخبير الإعلامي فيصل محمد صلاح، والتي طرحت بجرأة أسئلة حول مسؤولية الإعلام في مواجهة الخطاب التحريضي، وإمكانية استخدام الدراما التفاعلية والمسرح المجتمعي كسرديات بديلة تعيد الاعتبار لصوت الإنسان العادي في قرى النيل وسهوله.
أما الدبلوماسية المائية، التي شكلت محوراً جوهرياً في الورشة، فقد طُرحت كوسيلة تفاوض تأسيسية إلى جانب كونها منظومة قيمية واستراتيجية تعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمورد، وبين الدولة والمجتمع، بل وحتى بين المجتمعات المحلية عبر الحدود.
الورشة التي قدمها م. فكي احمد المدير الأسبق للانترو حفزت على النظر في هذه الدبلوماسية من منظور ثقافي وإنساني، وأظهرت كيف يمكن للمسرح، وللدراما، وللسرد المحلي أن يُستخدم في سياقات التفاوض والتواصل، وأن يملأ الفراغات التي لا تستطيع السياسة الرسمية وحدها ملؤها.
في موازاة ذلك، أعادت الورشة الاعتبار لقضية النوع الاجتماعي، بوصفها الإيجابي ليست مجرد بند إجرائي ضمن المشاريع، بل كمدخل ضروري لفهم معادلة القوة والتوزيع العادل للموارد. المرأة لم تُطرح هنا كسلعة بل كمستفيد، بجانب كونها كقوة اجتماعية ذات دور قيادي في صنع القرار المائي والتنموي.
كذلك من خلال العروض التي قدمتها الكندية إلين هاغمان، ومداخلات المشاركين، بدا واضحاً أن الرهان على النوع الاجتماعي لا ينفصل عن رهان أكبر على العدالة الاجتماعية، التي تمثل في جوهرها شرطاً مسبقاً لأي استقرار حقيقي، وأي سلام دائم.
ومع تقدم أيام الورشة، بدأ يتبلور نموذج سوداني خاص شارك في صياغته الوفد السوداني بقيادة د. صالح حمد رئيس الجهاز الفني بوزارة الزراعة والري وبرفسور احمد صيام عضو كرسى اليونسكو للمياه بجامعة ام درمان الإسلامية وبقية أعضاء الوفد، يمكن التفكير فيه كمبادرة قابلة للتطبيق والتوسع، تقوم على ثلاثة أعمدة: إعلام تنموي متعدد الوسائط يخاطب الجمهور بلغة مبسطة وحساسة للسياق، دبلوماسية ثقافية تدمج التفاوض في سياق الفنون والمسرح مع تبسيط الخطاب البيئي، وإدماج كامل للنوع الاجتماعي كفلسفة تخطيط وتنفيذ، وليس فقط كمكون إضافي.
هذا النموذج، إن وُضع في حيز التنفيذ، يمكن أن يضع السودان في موقع ريادي ضمن دول الحوض، خاصة أنه يتمتع بإرث ثقافي وتاريخي يؤهله للقيام بدور الوسيط، لا فقط في المجال الجغرافي، بل في المجال القيمي الأخلاقي والسياسي.
وفي سياق هذه التحولات، تبرز أهمية استحضار الإعلام التنموي والدبلوماسية المائية كأداتين مركزيتين في هندسة التعاون المستقبلي بين دول الحوض. فالإعلام، حين يكون تنمويًا، لا يكتفي بنقل الواقع، بل يشارك في إعادة تشكيله، ويمنح المجتمعات القدرة على التعبير عن ذواتها واحتياجاتها.
وهو في جوهره، أداة لتفكيك التصورات الخاطئة، ولبناء مساحات للثقة، وكسر الجمود والحواجز النفسية التي تراكمت بفعل التوترات السياسية.
أما الدبلوماسية، حين تُمارس بصيغة ثقافية وإنسانية، مع خبرة هندسية فإنها تفتح الأبواب المغلقة، وتمنح الأطراف المختلفة فرصة الالتقاء خارج منطق الانتصار والهزيمة.
إن فكرة استدعاء هذه الأدوات الناعمة، في لحظة تبدو فيها التحديات أقرب إلى الانفجار، باتت ضرورة سياسية وأخلاقية. وهي تعكس تحولاً في الوعي الإقليمي، نحو إدراك أن الاستقرار لا يُبنى فقط بالسياسات العليا، بل أيضاً بالتفاهمات الصغرى، بالخطاب، وبالثقافة، وبالمشاركة المجتمعية.
وما شهدته في نيروبي هذا الأسبوع كان تمريناً استراتيجياً على تخيل مستقبل مختلف لحوض النيل، يقوم على التلاقي لا التنافر، وعلى تكامل الأدوار لا ازدواجها أو تصادمها.
بحسب#وجه_الحقيقة فإن رسالة هذه الورشة أكدت على أن حوض النيل ليس ساحة لتنازع السيادات، بل فرصة لصياغة نموذج أفريقي للتكامل والتنمية المستدامة. وإذا ما أحسنّا الإصغاء لما قيل في نيروبي، وتحويل التوصيات القادمة إلى مشاريع واقعية، فإننا نكون قد وضعنا أول حجر في طريق السلام الحقيقي. ذلك السلام الذي لا تُقرره غرف السياسة فقط، بل يُبنى، ويُصاغ، ويُتداول بين الناس، في الإعلام، في المسرح، في الحوار المجتمعي، وفي كل مساحة يشعر فيها الإنسان بأنه شريك في الماء، وفي المصير.
دمتم بخير وعافية.
الخميس 18 سبتمبر 2025م Shglawi55@gmail.com
#التعاون_الإقليمي
#حوض_النيل
#الدبلوماسية_المائية
#الإعلام_التنموي
#النوع_الاجتماعي
#التنمية_المستدامة
#السلام_الإفريقي
#التكامل_الإقليمي
#مستقبل_النيل
#وجه_الحقيقة
#إبراهيم_شقلاوي