33 C
Khartoum
الأحد, يونيو 22, 2025

الكفاءة أولًا: ما يحتاجه السودان لا من يُفرض عليه” بقلم: خالد المصطفى اعلام لواء الردع

إقرأ ايضا

– في ظل عالمٍ يتشابك فيه النفوذ السياسي مع المصالح الحزبية، تبرز الحاجة إلى نماذج حكم جديدة تعيد للدولة هيبتها، وللشعب ثقته في مؤسساته. ولعل من أبرز هذه النماذج وأكثرها جذرية هو تعيين وزراء على أساس الكفاءة لا الانتماء، والنزاهة لا الولاء، والعمل لا الشعارات. هذا المقال يستعرض بعمق فلسفة “الوزير الكفء”، ويغوص في نماذج وتجارب دولية، ويطرح مقترحات عملية لتطبيق هذا النهج في السودان وغيره، مؤمنًا بأن الطريق إلى التنمية يبدأ من بوابة الكفاءة… لا منطق المحاصصة.
– في عالم تتنازعه الاحزاب السياسية وتضج فيه مراكز القوى، يبرز نموذج تعيين الوزراء ذوي الكفاءة كإحدى المقاربات الحديثة لبناء حكومات رشيدة تقودها المصلحة الوطنية، لا الحسابات الحزبية. فكرة الكفاءة الوزارية تتجاوز مجرد غياب الانتماء الحزبي، لتصبح فلسفة حكم تقوم على التجرد من الاصطفافات وتكريس الفاعلية والنزاهة. في هذا السياق، تطرح معضلة الاختيار بين الولاء السياسي والكفاءة المهنية سؤالًا حادًا حول جدوى الاعتماد على وزراء أصحاب كفاءة في بيئة ما تزال فيها السياسة تتغذى على المحاصصة والتنازع.
– الإطار النظري لاختيار الوزراء على أساس الكفاءة يواجه تحديات متعددة تبدأ من غياب المعايير القانونية الدقيقة. ففي أنظمة مثل النظام الأردني، تمنح المادة ٣٥ من الدستور الملك صلاحية تعيين رئيس الوزراء والوزراء دون شروط واضحة، مما يفتح الباب لتدخلات غير مهنية، وغالبًا ما تطغى الحسابات الخارجية أو الإقليمية على منطق الكفاءة. أما في ألمانيا، ورغم أن المستشار الاتحادي يعتمد على معايير كفاءة في اختيار الوزراء، إلا أن التوازنات داخل التحالفات السياسية تفرض شروطها، حيث يُراعى تمثيل أقاليم مثل بافاريا في تشكيلة الحكومة الاتحادية، حتى إن لم تكن الكفاءة وحدها هي الفيصل.
– بحسب مقاربات الحوكمة الرشيدة، تتحدد الكفاءة الوزارية بأربعة معايير أساسية: أولها الخبرة العملية المثبتة في مجال الاختصاص، بما يضمن أن يتولى وزارة المالية مثلًا من يملك سجلًا علميًا ومهنيًا في الاقتصاد والإدارة العامة. ثانيها الحياد السياسي، والذي يعني ألا يكون الوزير منتميًا لحزب أو تيار سياسي، وهو شرط يعزز التجرد من الولاءات. ثالثها النزاهة، بحيث يكون تاريخ الشخص خاليًا من ملفات فساد أو شبهات أخلاقية أو مالية. وأخيرًا، يأتي التوازن الإقليمي، الذي يقتضي تمثيلًا عادلًا للمكونات الجغرافية للدولة، بما يعزز شعور الجميع بالمشاركة دون أن يكون ذلك على حساب الكفاءة.
– التجارب الدولية تقدم نماذج متنوعة لتعيين وزراء ذوي كفاءة، تراوحت نتائجها بين النجاح والإخفاق. في رواندا، يكفل الدستور منذ 2015 مبدأ التجرد الحزبي التام أثناء الخدمة الوزارية، ويحظر على الوزراء ممارسة أي نشاط سياسي خلال فترة توليهم المنصب. بل يتم إخضاع الأداء الوزاري لمؤشرات دقيقة تقيس الكفاءة الفنية والشفافية المالية والرضا المجتمعي بصورة فصلية. أما في المغرب، فشهدت الساحة السياسية سنة 2017 صراعًا مريرًا بين حزب العدالة والتنمية بزعامة عبد الإله بنكيران وتحالف القوى التقليدية المعروف باسم “المخزن”، حيث اصطدم مطلب إشراك وزراء ذوي كفاءة . هذا الصراع كشف هشاشة البنية السياسية وقدرة الأطراف التقليدية على تجاوز مبدأ الكفاءة لأغراض النفوذ. وفي السودان، برزت مقترحات رائدة، منها ما اقترحه خبراء في الإدارة العامة بتشكيل هيئة عليا لاختيار الوزراء تضم قضاة وخبراء أكاديميين، على أن تُنشر السير الذاتية للمرشحين ويُخضعوا لمقابلات علنية تُبث في وسائل الإعلام، في خطوة تعزز من الرقابة الشعبية وتُرسّخ الشفافية كمبدأ أصيل في اختيار الكفاءات.
– برغم وضوح الفكرة نظريًا، إلا أن تعيين الوزراء على أساس الكفاءة يواجه تحديات عملية. من أخطر هذه التحديات ما يُعرف بـ”الاستقلالية الشكلية”، حيث يُتهم بعض الوزراء في أنظمة مثل الأردن بأنهم غير منتمين رسميًا، لكنهم يدينون بالولاء لجهات سياسية أو سفارات خارجية، ما يُفرغ مفهوم الكفاءة من جوهره. وتجربة الكونفدرالية الأمريكية خلال الحرب الأهلية قدّمت درسًا مهمًا، حيث أدى غياب الأحزاب إلى تفريغ النقاش السياسي من المضمون، وتحول البرلمان إلى ساحة خلافات غير منتجة نتيجة افتقاد البدائل البرنامجية الواضحة. وفي السودان، وُضع نموذج اقتراحي لتوزيع المناصب الوزارية على أساس جغرافي بحيث تنال دارفور نسبة ٣٠٪ والخرطوم ١٠٪، لكن بشرط أساسي يتمثل في أن يحصل المرشح على تقييم كفاءة لا يقل عن ٨٠٪ من لجان فنية محايدة تضم أساتذة جامعات. هذا النموذج يحاول التوفيق بين العدالة الجغرافية والكفاءة الفنية، وهو مبدأ ضروري لتجاوز عقلية المحاصصة.
– واحدة من أبرز الإشكاليات التي تعيق نموذج الوزراء الأكفاء هي غياب الرقابة البرلمانية الفاعلة. في النظم البرلمانية الكلاسيكية، يكون الوزراء أعضاء في البرلمان وتخضع أعمالهم لمساءلة دورية من قبل لجان مختصة، وهو ما يخلق ميزان ردع فعال ضد الفشل أو الفساد. لكن في حالة الوزراء من خارج الطيف السياسي أو الأكاديمي، غالبًا ما يكون البرلمان عاجزًا عن مساءلتهم بسبب غياب الرابط الحزبي، ما يخلق فراغًا رقابيًا خطيرًا قد يؤدي إلى تحلل الأداء التنفيذي.
– لضمان نجاح نموذج الكفاءة، هناك حاجة ماسة لضمانات مؤسسية. من أبرز هذه الضمانات اعتماد آلية “فيتو الكفاءات”، التي تخوّل هيئة مستقلة صلاحية إلغاء تعيين أي وزير تنخفض درجة تقييمه الفني أو الأخلاقي إلى أقل من ٦٠٪ خلال أول ٩٠ يومًا من توليه المنصب. كما ينبغي تحديث قائمة احتياطية كل ستة أشهر تتضمن أسماء عشرين شخصية وطنية من أصحاب الكفاءات العالية، تكون جاهزة للإحلال في حال إخفاق أي وزير. عنصر الشفافية لا يقل أهمية عن الكفاءة، إذ يجب إنشاء منصة حكومية رقمية مثل “SudanGov Monitor” تعمل بالذكاء الاصطناعي لمتابعة العقود الحكومية التي تتجاوز قيمتها ألف دولار، وتنشر تفاصيلها للعموم، مع تحليل شكاوى المواطنين وتقييم تفاعل الوزارات معها.
– وتأتي مسألة الإفصاح المالي لتلعب دورًا محوريًا في تعزيز الثقة، حيث يتعين على كل وزير أن يقدم إقرارًا بالذمة المالية كل ثلاثة أشهر، يخضع لرقابة جهاز مستقل يملك حق الإحالة للقضاء عند الاشتباه بأي تجاوز. أما على صعيد الدعم المؤسسي، فيمكن إنشاء مجالس استشارية مثل “المجلس الاقتصادي السوداني” الذي يضم خمسة خبراء محليين وثلاثة دوليين يتولون مراجعة سياسات الوزارات من حيث الجدوى والعدالة والتكلفة. كما أن تبني ما يُعرف بـ”ميثاق الدماء الجديدة” يضمن تجديد الطبقة التنفيذية، إذ يُخصص نصف الحقائب لمن هم دون الخامسة والأربعين من العمر، ويُحتفظ بنسبة ٢٠٪ منها للنساء، بما يعزز التنوع وتجديد الرؤية.
– في الختام، فإن الوزير الكفء ليس منقذًا خارقًا ينتشل الدولة من وهدتها، بل هو مجرد تروس في منظومة أوسع لا تكتمل إلا بالتغطية الدستورية الصلبة، كما هو الحال في النموذج الرواندي الذي يمنع الانتماء الحزبي، وبآليات رقابة شعبية تضمن تمحيص السير الذاتية ومتابعة الأداء عبر المقابلات المسجلة، وبدمج مؤسسي بين الكفاءة الفردية والرقابة البرلمانية الجماعية. لأن الثقة لا تُمنح بمراسيم التعيين، بل تُكتسب بالأداء والإنجاز، ولأن السودان لا يستحق إلا وزراء يشبهون عظمة أهله: أكفاء، نزيهين، شفافين، لا ينحنون إلا لله والوطن.

مقالات تهمك أيضا

الأكثر قراءة