30.6 C
Khartoum
الخميس, يوليو 31, 2025

الفشقة.. ما بين عدالة الأرض وأشباح الماضي ✍️ خليفة جعفرعلى

إقرأ ايضا

في أقصى الشرق السوداني، حيث تعانق الأرض سماء العزة، وتتمازج الجغرافيا بالتاريخ، هناك تمتد الفشقة الكبرى كأيقونة للخصب، محفورة بعرق المزارعين المغلوب على أمرهم حاليا، وممهورة بدماء الشهداء والصامدين. ليست الفشقة الكبرى مجرد قطعة أرضٍ منسية، بل تجسيدٌ نابض لمعنى الانتماء، وصورة نقية لعدالةٍ غابت طويلًا خلف ستار التجاهل والمساومات السياسية الضيقة.

تلك الأرض الباسلة، التي شق فيها المزارعون طرق الإنتاج وسط وعورة الطبيعة وغدر عصابات (الشفتة)، لم تكن يومًا منحة من سلطة على طبقٍ من حرير، ولا منة من حزب، بل ثمرة جهد شريف، ومعاول صدحت فوقها حناجر الكدح والكبرياء. هناك، حيث سطر الرجال والنساء ملحمة وطنية لا تُروى إلا بماء الصبر، وزيتون الكرامة.

غير أن الحلم سرعان ما اصطدم بجدار الغدر. فمنذ أواخر عام 1995، تعرضت الفشقة الكبرى لاعتداء إثيوبي آثم، دنّس الأرض، ونهب المحاصيل والماشية، وسلب المعدات والآليات، وشرّد وأعسر من عشقوا ترابها، ليجدوا أنفسهم بين قوائم الديون وخلف قضبان السجون، في ظل صمتٍ رسميٍ مريب، وخذلانٍ لعدالةٍ كان يفترض أن تكون حصنهم وسندهم.

وعندما بزغ فجر التحرير مؤخرًا، لم يكن الاحتفال بالثأر، بل بالانتماء. خرجن نساء المتضررين بزغاريد النصر، واحتشد رجالها في ميادين العرضة، وارتفعت قوافل الدعم نحو الجيش السوداني، في لوحة وطنية خالصة، نادرة في صفائها، عظيمة في رمزيتها. لكن وكما هي سنة الطهر حين يُحرج المتخاذلين، فقد أثار هذا الولاء غضب بعض دوائر قوى الحرية والتغيير (قحت)، التي استعصى عليها فهم هذه اللحمة الشعبية حول مؤسسة الجيش.

وما كان يُرتجى أن يكون بداية عهدٍ جديد، عاد مشوبًا بأطماع الداخل قبل الخارج. فبتدبير إداري مشبوه، أنشأ والى”قحت” السابق مكتبًا خاصًا سُمي بـ”إدارة ملف الفشقة”، ليتحوّل لاحقًا إلى أداة حزبية تمكينية، لتُنزع بها الأراضي من أصحابها الشرعيين، لتُمنح ، إلى المحسوبين والمقربين، وبعض النافذين
وبعد رفضه للمتضررين عبر مكتبه الممسك بالملف بزراعة مشاريعهم وهم يرون آخرين ليس لهم علاقة بالفشقة يزرعونها ،
لم يكن صوت المزارعين المتضررين خافتًا، بل مدويًا في الميادين. خرجوا في اعتصامات سلمية، ترفع راية الحق وتطالب بإيقاف الانتهاك الممنهج. وكانت النتيجة إقالة الوالي ومكتبه، الذي بات رمزًا للانحراف عن طريق العدالة.

ورغم تعاقب الإدارات، ظل الملف رهين الجمود، إلى أن تولى الفريق ركن محمد أحمد حسن زمام ولاية القضارف، فبدأت ملامح التغيير تتجلى. ومنذ اللحظة الأولى، عبّر الفريق عن رغبة حقيقية في إنصاف أهل الفشقة. فأمر بتشكيل لجنة ميدانية نزيهة، عملت بمهنية رفيعة، وأعدّت تقارير رصينة، تستند إلى القانون والمنطق، ما أعاد شيئًا من الثقة التي كادت أن تُنسى.

وفي هذا السياق، لا بد من الترحم على روح الخبير الوطني الراحل صلاح الخبير، رئيس لجنة الحدود، الذي دافع عن الفشقة ومتضرريها بإخلاص مهني ونزاهة وطنية. رحل الجسد، لكن بقيت مواقفه مناراتٍ تهدي المظلومين، وترفع هامات الحق.

ولكن، وكما هي حال كل بذرة أمل في أرضٍ تعج بالتربص، سرعان ما اصطدم التفاؤل مجددًا بجدار البيروقراطية وأشباح الماضي. إذ أن هناك شخصية معروفة بانتمائها لتيار “قحت” بل قياديا وممسكا بالملف فترة والى قحت الآن ضمن إدارة الملف، دون صلة ميدانية أو دراية حقيقية بتفاصيل الواقع. خطوة قد تبدو إدارية في ظاهرها، لكنها تحمل في جوفها نُذر تهديدٍ للاستقرار والثقة، وتُعيد التلويح بشبح الأزمة.

إننا لا نستهدف الأشخاص، بل نحذر من إعادة تدوير الفشل، ومن فتح الأبواب لعناصر كانت جزءًا من المأساة، لا من الحل. إعادة تمكينهم تعني نكوصًا إلى الوراء، ووأدًا لبوادر المصالحة، وزرعًا لبذور فتنةٍ قد لا تُحمد عقباها.

هذا النداء لا ينطلق من موقع المناكفة، ولا ينتمي إلى اصطفافٍ حزبي. بل هو صرخة وطنية نابعة من ضميرٍ حي، تطالب بتجنيب هذا الملف الحيوي تجاذبات السياسة وأطماع النفوذ، وحمايته من عبث العابثين الذين كادوا أن يحوّلوه إلى وقود لصراع أهلي مدمر.

“الفتنة أشد من القتل” وها نحن اليوم نقف على شفيرها، ما لم يُحسم هذا الملف بقرار جريء، يعيد الحق إلى نصابه، ويُطهّر الإدارة من رواسب الأمس.

🔊. 🔊. 🔊

نداء مفتوح إلى سيادة الوالي الفريق ركن محمد أحمد حسن / المنصف

سيدي الوالي،
الثقة التي أولاكم إياها أهل القضارف لم تكن مجاملة، بل تعبير عن يقين راسخ بمعدنكم الأصيل، ووفائكم لقضايا الأرض والناس. أنتم تعرفون الفشقة كما تُعرف الجراح مواضعها، وتدركون من وقف معها في ساعة العسرة، ومن اتخذها مطية لمآرب حزبية رخيصة أو مصالح شخصية ضيقة .

لا تتركوا باب الفتنة مواربًا.
أغلقوه بقرار يُنصف الأرض وأهلها المتضررين، ويسدل الستار على فصلٍ من التلاعب والخذلان. ضعوا مفاتيح العدالة في يد من لم تتلوث يداه، وامنحوا الثقة لأصحاب المواقف، لا لأصحاب الأجندات.

فإن ضاع الحق في الفشقة، ضاع معنى السيادة، وإن أُهين المزارع المتضرر في أرضه، سقطت هيبة الدولة، وإن غابت العدالة، فلا راية تُحترم، ولا وطن يُصان.

ما نطلبه استحقاقًا.
ليس ترفًا، بل وفاءً للكرامة والتاريخ والتاريخ سيسجل لك هذا

مقالات تهمك أيضا

الأكثر قراءة