بين بنـ.ـدقيةٍ لا تنكسر، وعقيدةٍ لا تلين، وُلدت في تراب السودان بطولات من ذهب، سطرها رجال صدقوا الله ما عاهدوه عليه. ومن بين هؤلاء الرجال أويـ.ـس غانم ذلك المقـ.ـاتل السوداني الذي رسم ملامح التضحية بدمه، وأثبت أن الكرامة لا تُستجدى بل تُنتزع.
قاتـ.ـل أويـ.ـس في خطوط الـ.ـنار الأولى، ووقف على جبهةٍ تحـ.ـترق بنيـ.ـران العدوان، ولم يكن يسأل: من القائد؟، بل كان يهتف: أين المعركة؟، مؤمناً بأن وطناً يُغزى لا يليق برجاله إلا السيف والموقف النبيل.
لقد قدّم شهـ.ـداء معـ.ـركة العز والكرامـ.ـة أرواحهم رخيصة فـ.ـداءً للوطن، فارتقت أرواحهم كأنها الطير الأبابيل، تحلق في سماء المجد، وتغتسل بضياء الجنة. كانوا رجالاً لا تهمهم الأضواء، بل كانت وجهتهم ميادين الشرف، حيث لا نفـ.ـاق ولا مصالح، بل دم وعرق وعزيمة.
“وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا”
في ملحمة معـ.ـركة المـ.ـدرعات، كان أويس واحداً من أولئك الذين تسللوا ليلاً تحت أزيز الرصـ.ـاص ودويّ المـ.ـدافع، ليقلبوا الموازين على ميليـ.ـشيا الغدر. كانت المعـ.ـركة أكثر من مجرد استعادة موقع؛ كانت استعادة هيبة، وكرامة، وتاريخ.
روى أويـ.ـس عن تلك اللحظات قائلاً:
“لم نكن نخاف المـ.ـوت، كنا نخاف أن يُقال إن رجال السودان تراجعوا، كنا نعلم أن خلفنا أهلنا، وشهـ.ـداؤنا، وتاريخنا… المـ.ـدرعات كانت بداية النهاية لأكذوبة الطغيان.”
ولم تكن معـ.ـركة المهندسين أقل ضراوة، إذ صمد المقـ.ـاتلون في وجه حصـ.ـار خانق، ونيران لا تهدأ، وجـ.ـراح تنزف. كان أويس بينهم، يربط الجـ.ـراح بشريط القماش، ويشد على الأكتاف بكلمة “اثبت”، ويقـ.ـاتل في الخطوط الأمامية بكل عزم.
قال عنها:
“في المهندسين كان التراب أحمر بدم الشهـ.ـداء، وكان الأذان يرتفع من وسط الخراب… هناك رأيت الشهـ.ـيد مصعب، بـ.ـترت ساقه وما زال يطلق النـ.ـار، ورأيت سامر، يصلي والرصـ.ـاص ينهمر حوله، فتيقنت أن هؤلاء لا يُهـ.ـزمون.”
أما في معـ.ـركة تحـ.ـرير الخرطوم، فقد التقى أويـ.ـس برجالٍ كتبوا أسماءهم في سجلات الخلود. رأى الشـ.ـهداء يتساقطون كأوراق الورد، كل منهم يبتسم، وكأنما يسابقون بعضهم إلى الجنة. جلس أويس في أحد الأيام على أنقاض بناية محطمة، وسرد بحزن ممزوج بالفخر:
رأيت الشهـ.ـيد أنس يحمل صديقه الجـ.ـريح وهو ينـ.ـزف من خاصرته، لم يكن يُفكر بنفسه، كان همه ألا يترك رفيقه، ومضى به حتى سقطا معاً…
كيف أنساهم؟
كيف أتناسى وجوهاً تشربت بالنور؟
في المقابل، وبينما تتناثر أشلاء الشهـ.ـداء فوق أرض المعركـ.ـة، نرى آخرين على ضفاف النفاق السياسي يتراقصون على جراح الوطـ.ـن، يسعون خلف كراسي السلطة لا خلف شرف التضحية. يريدون الوطن سلّماً لأطماعهم، لا ساحةً للشهادة أو معبراً للمجد.
كيف يُقارن من سكب روحه على ثرى الوطن، بمن لا يرى في السودان إلا منصباً أو مكسباً؟
كيف يُقاس أويـ.ـس غانم ومن مضوا معه، بمن تسللوا في الظلام يتقاسمون الغنائم؟
ويقال في مثل هؤلاء:
ومن طلب العُلى من غير كدٍّ
أضاع العمر في طلب المحالِ
إنّ الشرف الحقيقي ليس في اعتلاء المنصات، بل في أن تقـ.ـاتل دون خوف، وتبذل دون حساب، وتبكيك أمك فخورةً لا باكية، لأنك مـ.ـتّ واقفاً كالنخيل لا راكعاً كالذليل.
التحية لأويـ.ـس غانم، ولكل مقاتلٍ حمل بندقيته لا ليقـ.ـتل فقط، بل ليحمي،
ولا ليغنم، بل ليدفع ثمن بقاء وطنٍ حرٍ، عزيزٍ، لا يُركع.
وأنا سأكتب للوطن حتى أنفاسي الأخيرة