31.5 C
Khartoum
الإثنين, أكتوبر 13, 2025

قيمة الكاتب وما كتب: هل كلامه من الذهب أم يشعل الذهن باللهب … العين الثاقبة بقلم : خالد المصطفى

إقرأ ايضا

. الكاتب كائن غريب في هذا الوجود، يعيش بين لحظتين لا ثالث لهما لحظةٍ يولد فيها المعنى من رحم التأمل، ولحظةٍ يخرج فيها هذا المعنى إلى الناس في صورة كلماتٍ تنبض بالحياة. فما أشبه القلم عنده بمصباحٍ في عتمةٍ، يُوقده بدم قلبه، وما أشبه الكلمة بجرّة ماءٍ يروي بها عطش الفكر الإنساني. والناس ما بين قارئٍ يبتغي المتعة من جمال اللفظ، وآخرَ يبتغي الهداية من حرارة الفكرة. ومن هنا ينشأ السؤال الأزلي: أهي قيمة الكاتب فيما يكتب من ذهب العبارات، أم في ما يشعل به العقول من لهب المعاني؟ إن القول الفصل في ذلك لا يُدرك إلا بتأملٍ في جوهر الإبداع ذاته، إذ هو مرآة النفس الإنسانية في سعيها نحو الكمال.

إن الذهب رمز الصفاء واللمعان، ولكنه ساكنٌ لا حرارة فيه، واللَّهَب رمز الحركة والاحتراق، لكنه متوهجٌ لا يثبت على حال. وبين هذين الرمزين يتأرجح الكاتب الحق، فهو لا يرضى أن يكون مقلّدًا يرصّ الحروف كما تُرصّ الحجارة في جدارٍ جميل، ولا أن يكون ثائرًا يلهب النفوس بنيرانٍ لا يضبط مسارها. إنما هو كالعاقل الحكيم الذي يُوازن بين زينة القول وقوة المعنى، فيجعل من الكلمة مرآةً لجمال الفكر، ومن الفكر نبعًا يغذي روح الكلمة. وإنّما الكاتب — في حقيقته — صانعُ معنى، لا صانعُ زخرف.

لقد وُجد الكاتب ليقول ما لا يجرؤ غيره على قوله، وليستخرج من ظلمة الصمت صوت الإنسان. فالكتابة ليست ترفًا لغويًا، ولا استعراضًا للمقدرة على البيان، ولكنها موقفٌ فكريٌّ وأخلاقيٌّ يعبّر عن رؤية صاحبها للعالم. فالكاتب الذي يسكب على ورقه عسل الألفاظ دون روحٍ من المعنى كالصائغ الذي يصنع ذهبًا زائفًا يلمع ولا يزن، وأما الذي يشعل القلوب باللهب وحده، بلا اتزانٍ ولا حكمة، فهو كمَن يزرع النار في حقول القمح. وما بين الذهب واللهب تقوم الحقيقة الوسطى الكلمة التي تجمع بين الجمال والنور، بين الزينة والهداية.

ولئن كانت الكلمة سلاح الكاتب، فإنها أيضًا مرآته. فهي تكشف مكنون نفسه، وتدل على درجة نضجه الفكري وعمق وجدانه. فما من كلمةٍ صادقةٍ إلا كانت ثمرة تجربةٍ عاشها، أو جرحٍ أحسّه، أو فكرةٍ آمن بها حتى سال حبره من أجلها. ولذا فإن قيمة الكاتب لا تُقاس بعدد صفحاته، بل بقدر ما يتركه أثره في ضمير القارئ. فكم من كاتبٍ صامتٍ يُحدث في النفوس ضجيجًا، وكم من آخرَ صاخبٍ لا يُسمع له صدى. إن الكلمة إن لم تمسّ الروح وتوقظ الفكر، فهي وإن كانت من ذهبٍ لا تعدو أن تكون حليًّا على جسدٍ بارد.

إن الكاتب حين يكتب، إنما يخوض معركةً خفيةً بين ذاته والعالم. كل حرفٍ يكتبه كأنه لبنة في جدارٍ يقيمه ضدّ النسيان. وربما لا يعلم القارئ كم من الألم والوجد تختبئ وراء جملةٍ واحدةٍ تبدو له سهلةً كالماء، ولكنها كُتبت بنار التجربة. ولذا كان من الواجب أن يُنظر إلى الكاتب بعينٍ من التقدير، لا لأنه يُجيد النسج اللفظي، بل لأنه يحمل أمانة التعبير عن الإنسانية جمعاء. فالكلمة التي تُكتب بصدقٍ تملك من الخلود ما لا تملكه صروح الملوك.

وقد قيل إن القلم أصدق أنباءً من السيف، لأن السيف يقطع الجسد، والقلم يوقظ الضمير. فكم من كاتبٍ غيّر وجه التاريخ بكلمةٍ ألهمت الشعوب، وكم من آخرَ أطفأ حروبًا بنور فكرته. إنهم أنبياء الكلمة، رسل المعنى، الذين يزرعون في تربة اللغة بذور الوعي. ومن هنا نفهم أن الذهب وحده لا يكفي، فالجمال بلا فكرٍ ظلّ، كما أن اللهب وحده لا يكفي، فالفكر بلا جمالٍ قسوة. وإنما الكمال في المزج بين اللمعان والوهج، بين البيان والعرفان.

ثم إن القارئ شريك الكاتب في هذه الرحلة. فالكلمة لا تحيا إلا في عقولٍ تتلقّاها بصفاءٍ، ولا تثمر إلا في أرواحٍ تتذوقها بوعيٍ. والكاتب العظيم هو الذي يكتب نصوصه وفي ذهنه قارئٌ مجهولٌ، لكنه يحاوره في الخفاء. فبين الكاتب والقارئ ميثاقٌ خفيٌّ من الصدق والإخلاص، قوامه أن يهب الأول فكره والآخر انتباهه. ومن هنا كانت القراءة فعلَ مشاركةٍ في الخلق، وليست استهلاكًا لمعنى جاهز. إن القارئ الواعي يصنع الكاتب كما يصنع الكاتب قارئه، فكلاهما طرفان في معادلةٍ واحدةٍ قوامها التواصل الإنساني.

وما أعجب أن نرى في كل عصرٍ أقلامًا تتنافس بين الذهب واللهب: هذا يُزخرف القول حتى يخنق المعنى، وذاك يُفجّر المعنى حتى يحترق الجمال. لكن الكاتب الحق هو الذي يسير بينهما على خيطٍ من ضوءٍ، لا يزلّ فيه قلمه ولا تضلّ فيه بصيرته. فهو الذي يعلم أن الكلمة مسؤوليّة، وأنها إن خرجت من فمٍ غافلٍ صارت سهماً، وإن خرجت من قلبٍ نقيٍّ صارت نوراً. ومتى تجرّدت الكلمة من غايتها، صارت عبثًا، ومتى حملت ضمير صاحبها، صارت حياةً تمشي بين الناس.

إن الكتابة، في جوهرها، نوعٌ من الخلود. فكل كاتبٍ يضع في كلماته عمرًا من روحه، وكل قارئٍ يلتقط من تلك الكلمات شعاعًا من البقاء. وحين ننظر في تراث الأدب البشري نجد أن الذين كتبوا بذهب الأسلوب وحده طواهم النسيان، والذين كتبوا بلهيب الغضب وحده انطفأوا مع أول ريحٍ، أما الذين جمعوا بين الجمال والصدق، بين الفن والإنسانية، فهؤلاء وحدهم ظلّوا خالدين. ولذا يُقال: الكلمة التي لا تحمل وجدان صاحبها لا تملك أن تعيش في وجدان الآخرين.

والكاتب في صراعه مع الزمن يكتشف أن كل ما حوله فانٍ إلا ما يُكتب بصدقٍ. فالمناصب تزول، والأسماء تُنسى، ولكن الكلمة تبقى. فهي شاهدٌ على فكر عصرٍ وروح إنسانٍ. إنّها البذرة التي تُزرع اليوم لتُثمر غدًا في عقلٍ لم يولد بعد. ومن هنا تنبع قيمة الكاتب، لا من شهرته، بل من أثره، ولا من كثرة قرائه، بل من عمق بصمته في وعي الإنسان.

وإذا كان الناس يُغرمون بالذهب لما فيه من بريقٍ، فإن القارئ الحق يُغرم بالكلمة لما فيها من ضوءٍ. فالبريق يخدع العين، أما الضوء فينير الطريق. الكاتب الذهبي هو من يطبع على الوجدان سكونًا جميلًا، والكاتب اللهبي هو من يوقظ في الإنسان طاقةَ التغيير. ولكن الكاتب الكامل هو من يجمع في كلمته بين السكون والحركة، بين البهاء والإشراق، فيكون أثره في النفس كالماء والنار معًا: يطهر ويحيي.

ولقد تمرّ الكتابة بأزمنةٍ يقلّ فيها الصدق ويكثر فيها الادعاء، حتى تصير الكلمات عملةً مزيفةً في سوقٍ صاخبة. وهنا يظهر الكاتب الأصيل كمنارةٍ وسط الضباب، يذكّر الناس بأن اللغة ليست وسيلة ترفٍ، بل وعاءُ فكرٍ ومسؤولية ضمير. إنّما تُقاس عظمة الكاتب بمقدار ما يُعيد للكلمة معناها، وللقارئ ثقته، وللحياة معناها الإنساني.

فالكاتب الذي يكتب بذهب اللفظ دون حرارة الإيمان، كمن ينفخ في رمادٍ ميتٍ، والكاتب الذي يكتب باللهب دون نور الحكمة، كمن يضيء ليحرق. أما من يكتب وفي قلبه حب الإنسان، وفي عقله نور الفهم، فهو الذي يجعل من القلم جسرًا بين القلب والعقل، ومن اللغة وطنًا للروح. وهنا تتجلّى القيمة الحقيقية للكاتب أن يكون ضمير أمته، ولسان عصره، وحارس الكلمة من أن تُبتذل أو تُباع في أسواق المصلحة.

وهكذا، إذا أردنا أن نحكم على الكاتب، فلننظر لا إلى بريق كلماته ولا إلى صخب أفكاره، بل إلى صدق تجربته. فإن الصدق هو المعيار الذي يُحوّل الحروف إلى حياةٍ، والسطور إلى وعيٍ. الكلمة الصادقة لا تُصاغ في القاموس، بل تُولد في القلب، والكاتب الذي يكتب بقلبه يخلّد، والذي يكتب بلسانه يزول.

ولعل أجمل ما يُقال في ختام القول أن الكاتب هو إنسانٌ يكتب ليذكّر الإنسان بإنسانيته. فمن كتب ليُمجّد ذاته أحرقه لهبه، ومن كتب ليخدم فكرته أضاء بذهبه، ومن كتب ليهدي الناس، جمع بين الذهب واللهب، فصار من الكلمة نبيًّا ومن المعنى وطنًا.

. إهداء:-
أهدي هذا المقال:-
إلى كل عشاق الكتابة الذين يحملون القلم بقلوبهم قبل أناملهم، إلى أولئك الذين يجعلون من الكلمات أجنحةً تحلق بأفكارنا إلى أفقٍ أرحب.
إلى أمي وأبي، رحمة الله عليهما، أسأل الله أن يغفر لهما ويرحمهما، وأن يدخلها فسيح جناته مع الصديقين والشهداء.
إلى زملائي وأصدقائي الذين يشاركونني دروب الفكر والإبداع، وإلى أهلي في الجريف غرب، حيث كل ركن يعج بالذكريات، وإلى أهلي في غبيشة القضارف، التي يظل تاريخها في وجداني.
إلى من يتأمل كتاباتي ويقرأ بين السطور ما قد يُخفيه القلم، ويكتشف معانيها العميقة.
إلى صديقي العزيز السيد العميد أحمد يوسف، الذي كان دائمًا الدعم والتوجيه.
إلى كل سوداني عشق القلم، وسعى أن يكون له بصمة في تاريخ الكلمة.
إلى كل من آمن بالكلمة وأثرها في تغيير العالم، أقدم هذا المقال، وكل الأمل أن تبقى كلماتنا حيّة، نابضة بالأمل والحكمة.

مقالات تهمك أيضا

الأكثر قراءة