تعلمنا في العمل الصحفي أن الذي يشتغل في هذه المهنة الصعبة على حق في كل ما يورده من أخبار أو معلومات إلى أن يتبين غير ذلك وحينها يتحمل مسؤلية ما يكتب ، كما أن الصعوبات والمخاطر التي يتعرض لها الصحفي و الإعلاميين على وجه العموم تجعلهم حريصين كل الحرص على عدم المخاطرة بإيراد معلومات أو افادات غير صحيحة لأن المسؤولية المهنية والضمير والواجب الأخلاقي والقانون الذي ينظم المهنة يمنعون ذلك ، بالنظر لهذه المهمة الصعبة التي يقومون بها تجاه التنوير وتمليك الحقائق للرأي العام ، لكن كثير من الأحيان تظل هناك تقديرات مهمة يحرص عليها الكاتب أكثر من الحرص على السبق الصحفي وذلك لأسباب كثيرة منها الظروف المحيطة بطبيعة السبق الصحفي والأثر الناتج عنه أو الذي يمكن أن يحدثه تجاه استراتيجيات الأمن القومي للبلاد.
بالأمس انفردت الزميلة الصحفية السندريلا كما يطلق عليها في الوسط الصحفي رشان اوشي بعمود مميز وكارثي في ذات الوقت ، مميز كونه استقصي وكشف عن معلومات سرية متعلقة باجتماع لحركات الكفاح المسلح تطالب فيها بتسليح نوعي وحظوظ في الحكومة القادمة تتجاوز ما تضمنه اتفاق جوبا للسلام ، وكارثي كونه لم يختار الوقت المناسب للكتابة حول الموضوع ، إذ أن البلاد مازالت مسجاه تحتضر ترجو رحمة الله وجهد المخلصين من ابنائها. ومازالت جراح الحرب ودماء الشهداء تعطر رائحتها المكان ، مازالت البلاد تخوض حربا وجودية تحتاج تضافر الجهود وتوحيد الصف ، دون النظر للمغانم أو المكاسب .
عقب هذا الحديث صدرت تصريحات من مساعد رئيس حركة جيش تحرير السودان الدكتور نور الدائم طه ، انفردت بها صحيفة اليوم التالي السودانية على عجل في محاولة إنقاذ الصورة الشائه التي رسمها المقال للحركات المسلحة ، رغم تأكيد نور الدائم في تصريحه على انحياز الحركات لخيارات الوطن والمواطن و الإنحياز للجيش من واقع المسؤولية الوطنية والواجب الأخلاقي حيث أكد على أن القوات المشتركة جزءً من الشعب ، ومعركة الشعب حالياً هي القضاء على التمرد وتطهير البلاد من المرتزقة .
كذلك أشار إلى أن اتفاق سلام جوبا من ثوابت المرحلة وليس هناك أي خلاف بين أطرافه وأضاف أنهم الأكثر حرصاً على دمج قواتهم في الجيش ، ولن تصبح المشتركة خنجراً في ظهر السودان . وقال إن انحيازهم مطلق للشعب و صناديق الانتخابات هي التي يجب أن تُقسّم السلطة بعد دحر المتمردين ، هذا الكلام في مجمله جيد قفل باب المزايدة على هذه القوات وأكد انحيازها لصالح قضية الوطن . إلا أنه لم ينفي ما أوردته الزميلة رشان من معلومات وماتضمنته من اتهام مباشر كما لم يصدر من الحركات أي توضيح أو نفي حتى لحظة كتابة هذه السطور.
عليه يظل التوضيح من الحركات مطلوب حول انعقاد الاجتماع المذكور الذي يمكن أن يُفسر على أنه خطوة لمحاولة تعزيز نفوذها في الحكم الانتقالي ، وهو من ما يرفضه الشعب السوداني الذي يتطلع لحكومة كفاءات وطنية غير حزبية تحتفظ فيها حركات سلام جوبا بمقاعدها وفقا للاتفاق ، حتى لا تشوه العملية السياسية وتصبح مكافأة لمن ساند الجيش في حرب الواجب الوطني ، وهذا مؤكد يثير مخاوف كبيرة من تكرار تجربة مليشيا الدعم السريع وهذا يكرس عدم الاستقرار السياسي والأمني ، لذلك يجب على الجيش الإسراع في اجراءات الترتيبات الأمنية التي تعجل الادماج في القوات المسلحة السودانيه وأن لا تكون هناك أية قوة مسلحة في البلاد خارج عباءة الجيش وأن تكون صناديق الاقتراع هي الوسيلة الوحيدة للوصول للسلطة والحكم.
كذلك من المهم أن يكون معلوم للجميع وذلك من ما أثبتت التجربة أن أقاليم دارفور لن تسطيع أي قبيلة حكمه بعيدا عن الجيش والقوات النظامية وهذا أحد ممسكات الإقليم من التفكيك ، كذلك يجب أن نعلم أن إتفاق جوبا قد استنفد مداه الزمنى من ما يوجب انتقال الحركات إلى أحزاب سياسية أو الانحياز لأحزاب توافق برامجها ، كما يجب أن يكون هناك بعد انتهاء الحرب اصطفاف جديد وترتيبات جديدة وفق القانون الذى ينظم العملية السياسية .
لذلك من الأجدى عدم الطرق على هذه المواضيع حاليا أثناء المعركة لأنها تخلخل الصفوف وتطيش السهام ، كذلك يرى مراقبون أن الحركات الآن رغم اسنادها الواضح للجيش في عدد من المحاور إلا أنها تعلم أن معركة الفاشر هي معركتها الوجودية ، لأنها تدافع عن أرضها ومناطق نفوذها ، فسقوط دارفور يعني سقوطكم جميعا وربما ذلك يعني سيادة المليشيا على جميع الإقليم ، لذلك هي الآن منصرفة لمعركتها الوجودية ولا تلقى بالا لغيرها من المعارك .
هذا بالإضافة إلى أن هناك آلاف السودانيين يقاتلون الآن مع الجيش في جبهات القتال المختلفة بما يفوق عددهم (عدد قوات الحركات) رغم ذلك لم نسمع لأحدهم صوت يطالب فيه بمغنم أو حظ في السلطة ، حتى الإسلاميين الذين يقدمون خلال هذه المعركة خيرة شبابهم قالوا أنهم سينصرفون إلى أعمالهم و شؤونهم الخاصة بعد أن تضع الحرب اوزارها ، لكن لن يستطيع أحد أن يصادر حقهم في العمل السياسي المفتوح والذي ينتظرون أن يعودوا به عبر الانتخابات إلى السلطة من جديد دون مزايدة أو ابتزاز ،
عليه يظل وجه الحقيقة في أهمية التأكيد على أن الشعب السوداني يرفض كل أشكال الفتنة والابتزاز أيا كان مصدرها كما يدعو إلى تجاوز الصراع البائس وغير المجدي حول السلطة الذي أورث البلاد تداعي الأمن والخلافات والاشاعات التي تهدف إلى دق إسفين بين الجيش وقوات حركات الكفاح المسلح التي ظلت داعمة لخيارات الشعب السوداني في استعادة الأمن وحماية السلام الأهلي والمجتمعي، كما يجب أن يظل هذا التلاحم الفريد بين جميع ابناء السودان بمختلف انتماءاتهم ضد المليشيا المعتدية وداعميها من الأحزاب السياسية ، والطامعين الدوليين و الاقليميين ، حتى لا يصبح حالنا حال الذي جثمانه مسجى يرجو سترته بينما الورثة يتكالبون على الميراث .
دمتم بخير وعافية .
الأحد 20/اكتوبر 2024 م. Shglawi55@gmail.com