ت
طالب الناطق الرسمي خالد الإعيسر بضرورة تمكين وسائل الإعلام المحلية من أداء واجبها، وقال خلال التنوير الأسبوعي الذي تقيمه وزارة الإعلام والذي إستضاف وزير الداخلية اللواء م. خليل باشا سايرين في بورتسودان،
أن بعض وسائط الإعلام الخارجية تختلف أجندتها عن الأجندة الوطنية للبلاد.
وأكد الإعيسر على أهمية تمكين المؤسسات القومية وأجهزة الإعلام الرسمية والمحلية للقيام بأدوارها الحيوية في المجتمع.
وليس من شكٍّ البتة في الأهمية القصوى التي يُشكِّلها الإعلام في كل أنحاء العالم، تلك الأهمية التي وضعته اليوم مقام السلطة الأولى في العالم كله بحكم قدرته الفائقة، وبلا جَدَل على تغيير كل المفاهيم السياسيَّة والاجتماعية والثقافية والأمنية، وقدرته الفائقة على الإقناع والتأثير المباشر على مجريات الأحداث الدولية والإقليمية والمحلية بشكل يمكنه من خلاله تغيير كل الأنظمة الحاكمة في كل أرجاء العالم بجرَّة قلم، أو بتقريرٍ إخباريٍّ إستقصائيٍّ ضافي من مواقع الأحداث، الأمر الذي يُحتِّم على كل الحكومة السودانية الحالية تركيز الإهتمام الأقصى بالإعلام والإعلاميين في السودان، خاصة في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها البلاد جرَّاء الحرب الشعواء التي قارب مداها إلى العامين، وزعزعت الإستقرار العام، وكادت أن تقضي على الأخضر واليابس في السودان.
وذلك من منطلق أهمية الإعلام وتأثيره المباشر على المواطن وقدرته في تشكيل الرأي العام في أقل من ثانية، وبفعل إمكانية أدواته ووسائله في رفع درجة الوعي والمعرفة والثقافة، وتوظيفه للأخبار والمعلومات في خدمة النقد ومراقبة الأداء الوظيفي المؤسسي العام، ومراقبة الأداءالوظيفيوالسياسي والاقتصادي العام في الدولة، فضلاً عن مقدرته على وضع الشارع والمواطن في صورة الأحداث وما يدور حوله من نشاطات ومجريات، من منطلق كونه منبر لتبادل الآراء والأفكار وردود الأفعال، ومن ثم، ومن خلاله يمارس المواطن حقه في حريَّة التعبير.
خلافاً لما يجب أن يكون عليه الإعلام السوداني الآن، حيث نجد أن وسائله وأدواته مُكبَّلةٌ بالعديد من القوانين والمحاذير المُعيقة للأداء الإعلامي الإيجابي الفاعل، وهو الأمر الذي أفضى به إلى أن لا يكون منصةً مفتوحةً للجميع لتناول مختلف الآراء ووجهات النظر وطرح ما يجب طرحه للعلن والشفافية المطلقة، ونشر المعلومة الحقيقية للمتلقي بما هو بحاجةٍ إليه، ولم يقف على مسافةٍ واحدةٍ من الجميع، فغاب بالتالي عن أحداثٍ جاريةٍ في السودان كانت غايةً في الأهميَّة والحساسيَّة، وكان من المفترض والطبيعي أن تقوم وسائل الإعلام المرئي والمقروء والمسموع كافة، أن تقوم بتغطيتها ونقلها للمواطن السوداني ومن موقع الحدث كما يجب.
وهنا يطرأ سؤالٌ مُلِحٌ للغاية في هذا الخصوص، لماذا غابت هذه الوسائل عن تغطية ما هو مهمٌ وضروريُّ وإيصاله للمواطن السوداني في وقته؟!.. وهل كان هذ الغياب مبرراً؟!.. خاصة وأن الإعلام الرسمي الذي يكتفي بنقل وجهة النظر الحكوميَّة فقط ونقل نشاطات الحكومة ومسؤوليها، لا يجد حرجاً في الإمتناع والإحتجاب عن تغطية الأخبار العامَّة والهامَّة الأخرى، وذلك بالركون لحججٍ كثيرةٍ ومتنوعةٍ يتذرع بها، أوّلها النواحي والدواعي الأمنيَّة، وهنا فإن النشر والتغطية الإعلامية، سواء كان مرئية أو مقروءة أو مسموعة، فإنها هنا تخضع للأجندات السياسيَّة والرؤية الأمنيَّة الحكوميَّة للحدث، ولو تنافى ذلك مع حق الجمهور بالإطِّلاع، فَتُرَجِّح كفَّة السلطة والسياسة على كفَّة المواطن وحقه في المعرفة والمعلومة الحقيقية ومن مصدرها الرئيسي.
وبالمقابل هناك الإعلام الخاص، والذي بالضرورة يخضع لسلطة الشركات الخاصَّة ويسعى للربحيَّة من خلال إقامة علاقاتٍ شخصيَّةٍ، فهو يميل إلى المحسوبيَّة ويتغافل عن قضايا الشأن العام، فيكون نشره للمعلومات بما يتناسب مع سياسته الماليَّة، ويتماشى مع مصالح مالِكِيهِ المرتبطة بالحكومة، فالأخبار المتعلقة بالفضائح والمشاهير وتجذب أكبر عددٍ من المشاهدين، تُعد أكثر أهميةً لديه من الأخبار التي تُشير إلى التقصير والتقاعس في الأداء الحكومي.
والواقع يؤكد ذلك، لاسيَّما أن هناك أحداث مهمة حدثت على الساحة السودانية غابت عنها وسائل الإعلام الرسميَّة والخاصَّة، ومن ثم جدها المواطن السوداني على شاشات وصفحات ومواقع وسائل الإعلام الخارجيَّة، وهو الأمر الذي يُفضي للتساؤل حول كيفية ولماذا لا تتناول هذه المؤسسات الموضوعات ولا توجهاتها السياسيَّة، وهل تتماشى مع المصالح الوطنيَّة، كما بحث عنها في مواقع التواصل الإجتماعي التي يكثر فيها اللغط والغلط والإشاعات وعدم الدقة والحياديَّة والمصداقيَّة في النشر؟!. لذلك لم يكن غياب وسائل الإعلام السوداني الرسمي والخاص مُبرَّراً، لأن هذا الغياب أوجد بدائل قد لا تكون في مصلحة السودان وإعلامه، ناهيك عن القيود الحكومية والأمنية المُكبِّلة للإعلام والإعلاميين.
ومع ما تمَّ طرحه أعلاه، يطرأ السؤال التالي، ما هو شكل ومسار الإعلام الذي نصبو إليه؟!.
والإجابة بلاشك أننا في الدولة السودانية، وفي الوقت الراهن والمهم جداً من تأريخ السودان، نحن بحاجةٍ ماسَّةٍ لإعلامٍ شجاعٍ، إعلامٍ جريئٍ لا يخشى قول الحق لومة لائم، إعلام يمتلك القدرة على نشر كل ما هو صائب ومُصحِّح للأخطاء الحكوميَّة وغير الحكوميَّة، إعلام حقيقي وفاعل، يكون صوتاً لمن لا صوت له، ويُركِّز بشكل أساسيٍّ ومُلزم لكل وسائل الإعلام على الحقائق والوقائع المُجرَّدة، إعلامٌ صادق، يقف على الحياد، وخالٍ من التحيُّز، إعلام لا يتأثر بالسياسة والسلطة والمال والمحسوبيَّة والمصالح الخاصَّة، ولا يخضع لضغوطات الحكومات.
وحقاً فإن المرحلة الراهنة في تأريخ السودان، مركزياً وإقليمياً وولائي، تتطلَّب وجود إعلام حقيقي يَتَّصِف بالمصداقيَّة، وينتَهِج الشفافيَّة ويعكس الحقيقة كما هي وبجلاءٍ وبلا مواربة، إعلام يُعلِي من شأن النزاهة، ولا يخشى طرح الأسئلة الصعبة والحساسة، إعلام مُتَحَمِس لتناول موضوعاتٍ غايةً في الأهميَّة والتأثير، ويقوم بتعرية الأخطاء وتصويبها، ويطرح المشكلات ويطرح معها الحلول، إعلام يتناول قيمنا الاجتماعية والثقافية، ويحتفي بإختلافنا وتَنَوُّعُنَا الثقافي والسياسي والإقتصادي و التنوُّع الإجتماعي، إعلام متحيِّز لوضع أسس فاعلة للسِلم العام والتعايش السلمي واحترام سيادة الدولة ومحاربة العنصرية والكراهية، إعلام مُتَجدِّدٌ يبحث عن كل ما هو جديدٌ في الطرح والتقديم، ليبقى إعلاماً مُثيراً وجاذباً لإهتمام الجمهور والمتابعين.
وفي هذه المرحلة حقاً، نريد لإعلامنا السعي الجاد لخلق حالة من الإنخراط والتفاعل المثمر بين وسائل الإعلام والجمهور، والمنفتح على الحوار والجديد من الأفكار المثمرة، إعلامٌ غنيٌ بالمعلومات الدقيقة والصحيحة دون زيادةٍ أو نقصان، إعلام يلتزم بالأخلاق الإعلاميَّة التي هي جوهر الإعلام وأدواته، إعلام موثوقٌ لا يُخرِج الأخبار من مضمونها أو سياقها، ولا يصُدر أحكاماً مُسبَقَة.
ونطمع بحق في هذه المرحلة الحرجة من عمر السودان إعلام حر ونزيه ومُستَقِل، إعلام يستخدم أدواته بمهنيَّةٍ عالية وبحياديَّة منقطعة النظير، إعلام يبتعد عن التظليل والتضليل وتهويل وتضخيم الأحداث، إعلام يتجنَّب الإفتراءات والإتهامات والشائعات والكذب والتدليس وإغتيال الشخصيات والتشهير بهم، إعلام حقيقي مسؤول، يُفرِّق بين الخبر العام والحقيقة الخاصَّة، ويُعظِّم الإيجابيات والإنجازات، ويسلِّط الضوء على السلبيات وكيفية معالجاتها، ويُوجَّه نحو النقد المُباح والبنَّاء خدمةً للصالح العام.
وبناءً على ما سبق، فالواجب يُحتِّ على الدولة، ممثلةً في مجلس السيادة وكافة الأجهزة الأمنية، ووزارة الإعلام.. وثقتنا في ذلك كبيرة.. العمل الجاد لرفع سقف حُريَّة الإعلام أعلى مما هي عليه الآن، وإعادة النظر بالتشريعات الناظمة للإعلام، خاصةً قانون الحق في الحصول على المعلومة وقانون الجرائم الإلكترونيَّة وقانون المطبوعات والنشر، وذلك لضمان تَدَفُّقٍ حُرٍّ للمعلومات الحقيقية، وجِدِّيَّة السعي نحو استقلاليَّة الإعلام ومؤسساته، والتأكيد على أخلاقيات العمل الإعلامي بإعتبارها جَوهَرِهِ وعَامُودِهِ الفقري، وأن يعمل في مناخٍ من التَعَدُّدِيَّة الفِكرِيَّة وإحترام الرأي والرأي الآخر.
وحتى يكون للإعلام يدٌ فاعلة في إحداث التغيير الأمثل لمفاهيم الديمقراطيَّة والحريَّة والإصلاح السياسي والإقتصادي وإصلاح القطاع العام وتطوير وتغيير النهج العام في الدولة، فلابدِّ للحكومة، وخاصة وزارة الإعلام، من إعطاء الإعلام المزيد من الحُرِّيَّات والإستقلاليَّة، لاسيَّما وأنه ومع إزدياد وسائل الإعلام وتوسُّع تأثيرها وإزدياد فعاليَّة دور المواطن فيها، يصبح ضمان الحق في الحصول على المعلومة ضرورة مُلِحَّة، يتزامن ذلك مع وجود إرادة حقيقيَّة من الحكومة لمنح هذا القطاع ما يستحقه من تشريعات وحُرِّيَّات بسقوفٍ مناسبة، لتواكب تطلعات المرحلة المقبلة، وبهذا نضمن إعلام سوداني حقيقي وحُر وفاعل، يؤدي واجبه المنوط به كما يجب.